صيف ساخن جدّاً


المحرر
الجمعة 23 يونية 2023 | 01:11 صباحاً

هدى البكر

المدير التنفيذي للشبكة العربية للمنظمات الأهلية

عادةً ما يبدأ موسم حرائق الغابات في كندا في مايو من كل عام، ولكن ما حدث هذا العام كان مُروِّعاً من حيث عدد الحرائق وسرعة انتشارها والمساحات المحترقة من الغابات، وهو ما أثار قلقاً بالغاً لدى المسؤولين هناك، جعلهم يصفون هذا الموسم بأنه الأسوأ تاريخيّاً.

وطبقاً لإحصائيات وتقارير الموقف الصادرة عن مركز حرائق الغابات الكندي المشترك بين الوكالات، منذ بداية العام حتى 12 يونيو 2023، بلغ عدد الحرائق 2492 حريقاً، تسببت في احتراق 4 ملايين و786 ألفاً و49 هكتاراً من الغابات أي نحو 47 ألفاً و860 كيلومتراً مربعاً مع ملاحظة أن الحرائق التي اندلعت خلال الأربع شهور الأولى من العام الجاري لم تتجاوز 60 حريقاً، وأن الرابع من مايو الماضي هو البداية المشتعلة لهذا الموسم؛ حيث تم إعلان حالة الطوارئ المحلية الأولى في ألبرتا، ومنذ ذلك الحين اندلعت مئات الحرائق التي تجاوزت 2000 حريق. هذا ويبلغ عدد الحرائق النشطة حتى الآن نحو 435 حريقاً. في الوقت نفسه تسببت هذه الموجة العاتية من حرائق الغابات في إجلاء أكثر من 30 ألف شخص من منازلهم.

السؤال الذي ينبغي لنا إثارته الآن: هل لتغير المناخ علاقة مباشرة بهذه الموجة العنيفة من الحرائق؟ حقيقة الأمر أن الإجابة على هذا السؤال أكثر تعقيداً مما نظن، ولا يمكن الرد عليه بنعم أو لا. قد تكون الحرائق اشتعلت بسبب سلوك بشري، أو بسبب الصواعق، أو طرق إدارة الغابات والأراضي، ولكن المؤكد أن الظروف الجوية غير المعتادة، مثل الجفاف الشديد، والحرارة المرتفعة، كانت سبباً في اتساع نطاق الحرائق وانتشارها بسرعة شديدة. في تقرير لبي بي سي، صرح روبرت شيلر أستاذ الغابات في جامعة ولاية كارولينا الشمالية، بأن الربيع في كندا جاء أكثر دفئاً وجفافاً من المعتاد، مما خلق بيئة جافة لهذه الحرائق الشاسعة. وفي هاليفاكس، في مقاطعة نوفا سكوشا الشرقية، وصلت درجات حرارة الأسبوع الأول من يونيو إلى 33 درجة مئوية، أي أعلى بحوالي 10 درجات من المعتاد في ذلك الوقت من العام. كما تعاني أجزاء من كندا – بما في ذلك ألبرتا وساسكاتشوان – من الجفاف منذ عام 2020. أيضاً قال عالم المناخ دانييل سوين من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس إن الغطاء النباتي في الغابات جاف بشكل استثنائي، وهو ما يعني أن جزءاً كبيراً من الصواعق أدى إلى حرائق الغابات.

هذا يعني أن حالة الاحترار العالمي تلعب دوراً لا يُستهَان به في تفاقم حرائق الغابات الموسمية، وهو ما دفع مايكل نورتون المدير العام لمركز الغابات الشمالية بوزارة الموارد الطبيعية الكندية، إلى القول بأن تغير المناخ يزيد من تواتر وشدة حرائق البراري، ويخلق مواسم حرائق أطول في كندا. هذا الموسم من حرائق الغابات عادةً ما يستمر حتى سبتمبر من كل عام، وبهذه الوتيرة من المرجح أن تكون أمريكا الشمالية على موعد مع صيف ساخن جدّاً.

تجدر الإشارة إلى أن أزمة حرائق الغابات في كندا تُعَد نموذجاً صارخاً على ما يمكن أن تبدو عليه التداعيات الصحية والاجتماعية والاقتصادية "العابرة للدول" للظواهر البيئية في ظل الاحترار العالمي. فقد تجاوزت تداعيات حرائق كندا حدودها لتصل إلى الولايات المتحدة؛ وذلك في شكل سحب دخان برتقالية وبنية كثيفة بطول الساحل الشرقي الأمريكي، هذا الدخان الكثيف كان سبباً في أن تسجل مدن مثل واشنطن ونيويورك وفيلادلفيا – طبقاً لمؤشر جودة الهواء لوكالة حماية البيئة الأمريكية – أسوأ جودة هواء على مستوى العالم؛ وذلك صباح الخميس 8 يونيو، متجاوزةً بذلك المدن المعروف عنها عالميّاً أنها صاحبة أسوأ جودة هواء، ومنها دكا ولاهور وهانوي.

لقد جاءت سحب الدخان الناجمة من حرائق الغابات مُحمَّلة بالجسيمات الدقيقة جدّاً الناتجة عن الحرائق، وهي جسيمات يقل قطرها عن 2,5 ميكرون؛ ولذلك فهي قادرة على أن تتجاوز دفاعات الجسم الطبيعية، مثل الأغشية المخاطية في الأنف والحنجرة وآلية السعال، ومن ثم يمكن استنشاقها بعمق في الرئتين أو حتى دخولها إلى مجرى الدم؛ بسبب صغر حجمها. من هنا، فإنها تؤدي إلى التهاب الشعب الهوائية والأعضاء الأخرى، بما في ذلك القلب والكلى والكبد، وقد تتسبب في السكتات الدماغية وأنواع عدة من السرطان. هذه التداعيات الصحية الخطيرة للهواء الملوث، فرضت مجموعة من القيود الاجتماعية، بعدما تلقى 100 مليون مواطن في أمريكا الشمالية تحذيراً من أن جودة الهواء غير صحية، وأن عليهم تجنب الأنشطة الخارجية غير الضرورية، وإغلاق النوافذ والأبواب، وارتداء الكمامات، كما تم إلغاء الأحداث الرياضية والأنشطة المدرسية الخارجية، وإغلاق حديقة الحيوانات الوطنية في الولايات المتحدة.

أيضاً، فإن موسم حرائق الغابات المبكر والمشتعل بضراوة هذا العام والمتوقع استمراره حتى سبتمبر، سيكون له تداعيات كبيرة على حركة السياحة ورحلات الطيران في كندا، كما تأثرت أعمال التعدين في مقاطع كيبيك، وهي مركز التعدين الرئيسي في كندا؛ حيث قلصت شركات التعدين مؤقتاً عمليات الاستكشاف والإنتاج مع استمرار الحرائق، كما تأثر إنتاج النفط والغاز بالنظر إلى حرائق الغابات في ألبرتا، وهو ما أثر على صادرات الغاز الكندية إلى الولايات المتحدة. أيضاً تم تأجيل العديد من رحلات الطيران في الولايات المتحدة بالنظر إلى صعوبة الرؤية بسبب الدخان الكثيف، كذلك فقد تعذر ذهاب الكثير من الأشخاص إلى أعمالهم بمدن الساحل الشرقي بالولايات المتحدة وسكان المدن الكندية الأكثر تضرراً، في حين وجهت الكثير من الشركات موظفيها للعمل من المنازل، وأغلقت العديد من الشركات والمتاجر أبوابها مؤقتاً.

يبقى السؤال الرئيسي الآن: هل سيكون لهذه التجربة المؤلمة تأثير على مواقف وآراء الملايين من سكان أمريكا الشمالية من تغير المناخ الذي تسبب في خلق حالة من الجفاف والاحترار عجَّلت بموسم الحرائق وزادت من حدته؟ بكلمات أخرى: هل يمكن للتجربة المباشرة أن تغير المواقف بشأن هذا التحدي الكوني؟ نتمنى ذلك.