هدى البكر
المدير التنفيذي للشبكة العربية للمنظمات الأهلية
خلال الفترة من 29 مايو حتى 2 يونيو الماضي، عقدت لجنة التفاوض الحكومية الدولية المعنية بوضع اتفاقية دولية ملزمة قانوناً بشأن التلوث البلاستيكي، اجتماعها الثاني في باريس، بمقر اليونيسكو، بمشاركة مندوبين من 180 دولة وعشرات من أصحاب المصلحة وممثلي المجتمع المدني والأكاديميين.
هذا الاجتماع يُعَد الخطوة التالية في العملية التي بدأت في فبراير 2022، خلال أعمال الدورة الخامسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة – وهي الهيئة الإدارية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة – التي تم خلالها اعتماد قرار تاريخي يهدف إلى تطوير اتفاقية دولية ملزمة قانوناً بشأن التلوث البلاستيكي، بما في ذلك التلوث في البيئة البحرية.
هذه الاتفاقية الملزمة قانوناً بتنظيم البلاستيك، المزمع دخولها حيز التنفيذ عام ٢٠٢٥، يصفها أنجر أندرسن المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة بأنها "أهم صفقة خضراء منذ اتفاقية باريس للمناخ عام ٢٠١٥"؛ لكونها تسعي إلى صياغة اتفاقية ملزمة لإنهاء التلوث البلاستيكي عبر التعامل مع كامل دورة حياة البلاستيك؛ بدايةً من الإنتاج ثم التصميم حتى التخلص منه؛ ما يعني خطوة تاريخية نحو تطوير اقتصادات دائرية تكسر عهد المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد.
تجدر الإشارة إلى أن التلوث البلاستيكي هو أحد أكثر القضايا البيئية إلحاحاً؛ حيث إن الزيادة السريعة في حجم المنتجات البلاستيكية التي يمكن التخلص منها، تطغى على قدرة العالم على التعامل معها؛ فقد تنامى إنتاج البلاستيك العالمي واستخدامه بشكل كبير في جميع أنحاء العالم من 1.5 مليون طن متري في عام 1950 إلى 430 مليون طن متري في عام ٢٠١٩، كما أصبحت المواد البلاستيكية الخفيفة والقوية وغير المكلفة مدخلاً أساسياً في حياتنا ومجتمعاتنا واقتصاداتنا، وهو الأمر الذي كان له تكلفة مرتفعة على البيئة وصحة الإنسان؛ لكونها منتجات قصيرة العمر، وسريعاً ما يتحول أكثر من ثلثيها إلى نفايات؛ حيث يتم إعادة تدوير 9٪ فقط من النفايات البلاستيكية، و19٪ أخرى يتم حرقها، و50٪ ينتهي بها المطاف في مكبات النفايات، و22٪ تذهب إلى مكبات غير خاضعة للرقابة؛ حيث يتم حرقها في حفر مفتوحة، أو ينتهي بها الأمر في بيئات أرضية أو مائية، خاصةً في البلدان الفقيرة.
ومن المُخِيف أن نعرف أن نحو ١٤ مليون طن من النفايات البلاستيكية تتسرب إلى المحيطات سنوياً، وهو ما يعادل إلقاء حمولة شاحنة من البلاستيك في المحيط كل دقيقة؛ هذا بخلاف أنه غالباً ما تحتوي المواد البلاستيكية على مواد مُضافَة تجعلها أقوى وأكثر مرونةً ومتانةً. وهذه الإضافات يمكن أن تُطِيل عمر المنتجات عندما تصبح نفايات؛ حيث تشير بعض التقديرات إلى أنها قد تحتاج إلى 400 عام على الأقل كي تتحلل.
من المهم الانتباه إلى أن مشكلة تلوث البلاستيك ليست مجرد مشكلة نفايات بيئية؛ لأن دورة حياة البلاستيك تنطوي على سلسلة من الأضرار المُركَّبة؛ بدايةً من إنتاجه من الوقود الأحفوري ومشتقاته الكيميائية؛ ما يؤدي إلى تفاقم تلوث الهواء والاحترار؛ حيث تشكل المواد البلاستيكية 3.4٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، مروراً بمقتل الملايين من الحيوانات بسبب البلاستيك كل عام؛ حيث إن كل أنواع الطيور البحرية والأسماك والكائنات البحرية تقريباً تأكل البلاستيك، نهايةً بوجود جزيئات البلاستيك الآن في الهواء ومياه الشرب وحتى في دم الإنسان.
عبر السنوات الماضية، ولمواجهة مسألة تلوث البلاستيك، اتخذت العديد من البلدان إجراءات مختلفة؛ منها وضع قيود على استخدام المنتجات البلاستيكية الأحادية الاستخدام، وتحديث مرافق إعادة التدوير، وتقليل استخدامات البلاستيك في العديد من الشركات، وتطوير اللدائن الحيوية والاستثمار في بدائل البلاستيك، كما تم بذل جهود كبيرة في إطار إزالة النفايات البلاستيكية من المحيطات والبحار والأنهار، ولعبت منظمات المجتمع المدني خاصةً المعنية بالبيئة، دوراً حيوياً في إطلاق حملات رفع الوعي بخطورة تلوث البلاستيك، وحشد المتطوعين لتنظيف السواحل، إلا أن كل هذه الجهود التي بُذِلت على مدى العقود القليلة الماضية، لم تُقلِّل من حجم المشكلة التي ازدادت سوءاً؛ وذلك لأنها جاءت مُجزَّأة وبدون تنسيق عالمي، في حين استمرت صناعة البلاستيك في التوسع والانتشار. وإذا استمرت معدلات الإنتاج على ما هي عليه، فإن إنتاج البلاستيك مُعرَّض للزيادة خلال العقد المقبل بنسبة ٤٠٪.
ومن ثم فإنه بالنظر إلى أن تلوث البلاستيك أزمة تحمل طابع العالمية، شأنها شأن أزمة تغير المناخ، كان لا بد من العمل على تطوير اتفاقية ملزمة قانوناً؛ لضمان عمل جميع البلدان معاً لحلها، وهو الأمر الذي تكلَّل بالنجاح في باريس بعد خمسة أيام من المفاوضات الشاقَّة؛ حيث تم الاتفاق على أن تضع لجنة التفاوض الحكومية الدولية للبلاستيك مسودة أولية لمعاهدة ملزمة قانوناً لإنهاء التلوث البلاستيكي في البر والبحر؛ وذلك قبل اجتماعها المقبل في كينيا خلال نوفمبر ٢٠٢٣.
أخيراً نأمل أن تكون هذه الصفقة الخضراء الجديدة طموحة ومصممة جيداً وشاملة، بحيث تتضمَّن أهدافاً واضحة ومحددة وقابلة للمراقبة يمكن للدول الأعضاء قياس التقدُّم المحرز على أساسها، وأن تأخذ الصفقة في الاعتبار حقائق وتعقيدات السوق عبر سماع وفَهْم أصوات الصناعات المعتمدة على البلاستيك، وأن تتعامل بجدية مع كامل دورة حياة البلاستيك بدايةً من الإنتاج، ومروراً بالتدوير، وانتهاءً بخلق مواد ومنتجات بديلة بهدف خلق اقتصاد جديد لا بهدف خنق اقتصاد قائم.