في العصور القديمة وقبل الثورة الصناعية، سادت علاقةٌ متوازنة بين الإنسان والطبيعة، حيث كان الفن يعكس هذا التناغم العميق بينهما، وهذا ما تُجسِّده النقوش والرسومات التي نراها اليوم على جدران المتاحف والكهوف، والتي تمجِّد البيئة ومواردها الطبيعية، فقد كان الإنسان يستمد من الطبيعة احتياجاته المادية وطاقته الروحية، ما جعل الفنون أداةً للتعبير عن امتنانه وتقديره لها، حيث كانت الطبيعة مصدر إلهامٍ روحيٍّ يستحق التأمل، ودافعاً للسعي نحو حمايتها من أي أذى.
ولكن انقلب الحال مع التطور والتقدم التكنولوجي الذي حققته الأمم، حيث أصبحت الطبيعة في موضع تهديد بعد تدخل الإنسان لتحقيق الربح وزيادة الإنتاج، خاصةً بعد الثورة الصناعية، ومع تزايد المخاوف بشأن تدهور البيئة في القرن العشرين، برزت حركات فنية تعبّر عن قضايا التغير المناخي والاختلال البيئي، وقد نجح الفنانون في تجسيد هذه القضايا عبر أعمالهم الفنية التي تعكس معاناة الطبيعة وما تتعرض له من انتهاكات وأضرار جسيمة.
الفن البيئي حركة تسمو بعلاقة الإنسان مع الطبيعة
في الفترة ما بين الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ظهرت حركة الفن البيئي أو ما يُعرف بفن التغير المناخي، وتضمنت هذه الحركة مجموعة من الممارسات الفنية التي تعالج القضايا البيئية المتعلقة بتغير المناخ والتلوث، معبّرةً عن التدهور البيئي عبر الأعمال الفنية، وفقاً لموقع "THE ART STORY".
وترجع جذور حركة الفن البيئي إلى النهج التاريخي الذي يبرز علاقة الفنان بالطبيعة، حيث اعتمدت على استخدام الموارد الطبيعية خلال تطورها لتحقيق الانسجام بين العناصر الطبيعية والمادية في المجال الفني، وقد استلهمت الحركة فلسفتها من لوحات الكهوف في العصر الحجري القديم التي ضمّنت تصاوير حيوانات ونباتات وأشكالاً طبيعية، كانت ذات أهمية بالغة في نمط حياة الإنسان ما قبل التاريخ، كما عبّرت عن تطور علاقته مع البيئة المحيطة به.
أهداف الفن البيئي
سعى الفن البيئي إلى تغيير نظرة الأفراد تجاه الطبيعة، وكشف مستوى الوعي البيئي والعاطفي الذي كان يكنّه الإنسان للبيئة المحيطة به، كما هدف إلى إعادة صياغة رؤية الناس للعالم من حولهم، وحثهم على إيلاء الاهتمام الكافي للموارد الطبيعية والكائنات الحية، وقد حاول الفنانون إثبات هذه المفاهيم عبر:
-الاندماج الفني مع البيئة: دمج الممارسات الإبداعية ضمن العلاقة الإنسانية البيئية، من خلال التفاعل المباشر مع الطبيعة لإنتاج أعمال فنية تعبّر عن القضايا البيئية بأسلوب راقٍ.
-المسؤولية البيئية: إدراك تأثيرهم المباشر على البيئة، فسعوا جاهدين إلى تقليل البصمة البيئية لأعمالهم الفنية، مع الحرص على عدم ترك أي آثار ضارة.
-التكيف مع دورة الطبيعة: تقبّل التغيرات الموسمية غير القابلة للتحكم مثل عمليات الإزهار والتعرية والتحلل، وعملوا بتناغم مع المناظر الطبيعية، متكيفين مع تحولاتها المستمرة.
-استخدام المواد الطبيعية: الاعتماد على عناصر طبيعية خالصة كأساس لأعمالهم الفنية، مثل: الأوراق والأزهار والأغصان، والجليد والتربة والرمل، والحجر والماء.
أبرز الفنانين البيئيين
ديان بيركو (Diane Burko)
خصّصت الفنانة ديان بيركو سلسلة من الأعمال الفنية التي تدمج بين الإبداع الفني والوعي البيئي، حيث برعت في تجسيد تداعيات التغير المناخي عبر لوحاتها، وتمحورت أعمالها حول ظواهر بيئية حرجة مثل ذوبان الأنهار الجليدية وتراجع الشعاب المرجانية، مُعبّرةً ببراعة فنية عن إلحاح هذه الكارثة البيئية.
وتُشكّل هذه اللوحات إنذاراً بصرياً يوضح حجم التهديد الذي يواجه كوكبنا، كما تُعدّ وثائقاً فنياً تهدف إلى رفع الوعي العام بالتحديات المناخية، والربط بين الإبداع الفني والحساسية البيئية، وإيصال رسالة مؤثرة تُحفّز التغيير في السياسات والقرارات البيئية.
أولافور إلياسون (Olafur Eliasson)
ركز الفنان أولافور إلياسون في أعماله الفنية على معالجة قضية الاحتباس الحراري المتصاعدة، حيث قدّم عمله الشهير "مشروع الطقس" (The Weather Project) عام 2003، بهدف حث الزوار على التأمل وإثارة الوعي تجاه عناصر المناخ والطبيعة، كما كشف المشروع عن عمق العلاقة بين الإنسان والكون، داعياً إلى التفكير في مصير كوكب الأرض، فقد صُممت هذه التجربة البصرية لتخلق إحساساً بالتواصل المادي المباشر مع العمل الفني.
آندي غولدزورثي (Andy Goldsworthy)
برع الفنان آندي غولدزورثي في استخدام عناصر الطبيعة كمواد فنية للتعبير عن رؤيته البيئية، حيث أبدع أعمالاً فنية من مواد طبيعية مثل الحجارة والأوراق والماء.
وآمن "غولدزورثي" بأن فنه يمثّل حواراً وتكاملاً مع البيئة، حيث تجسّد أعماله دورة الحياة وتحوّلاتها الزائلة باندماج ساحر مع المكان، كما استلهم إبداعاته من تقلبات الفصول وتفاعلات الضوء وحركة الطبيعة، ما أضفى على أعماله قدرة على استثارة التأمل في جمال البيئة ونقله إلى وجدان المشاهد.
وأخيراً يمكن القول إن الأهداف الأساسية لفناني البيئة تمحورت حول: توضيح الصلة العميقة بين الإنسان والبيئة، وجعل المكونات الطبيعية محوراً رئيسياً في الأعمال الفنية، وتسليط الضوء على الانتهاكات البيئية، وتعزيز الوعي البيئي المجتمعي، وتوجيه المجتمع نحو الممارسات البيئية السليمة.