أ.د. يوسف الكمري
استشاري في قضايا البيئة والتنمية المستدامة
بينما نخطط للمستقبل، يجب أن تُصبح المساحات الخضراء أولوية على مستوى التجمعات الحضرية والأرياف والقرى، بالتزامن مع تركيز أكبر على تعزيز الصحة النفسية الجيدة والرفاهية، ومن المتوقع أن يصبح الوصول إلى الموارد الطبيعية من أولويات التخطيط ومتطلبات كل المتدخلين في إدارة الشأن المحلي، مع تسليط الأزمات الصحية، مثال جائحة كوفيد-19، الضوء على أهمية حب الحياة، بمعنى الحاجة الفطرية للبشر للتواصل مع ما هو حيّ وحيوي.
الاستدامة كلمة اكتسبت رواجاً كبيراً خلال السنوات الأخيرة، وهي تؤثر على كل جانب من جوانب حياتنا اليومية المعتادة، بما في ذلك كيفية تناولنا للطعام والتسوق والعيش والسفر. وبالمثل، دار نقاش على أوسع نطاق حول المجتمعات المستدامة - ماهيتها، وكيفية عملها، وأهميتها.
تُعرف هذه الطريقة في العيش أيضًا باسم المجتمع "الأخضر" أو الصديق للبيئة، ولها فوائد كثيرة، سواءً لأفراد هذا المجتمع أو لكوكب الأرض ككل، في المجتمعات الخضراء، تتداخل الأفكار وتتكامل لتحقيق التوازن، وهذه سمة أساسية في أي نظام مستدام، كل جزء يسهم في الكل، والكل يتكون من أجزاء متعددة تعمل بتناغم.
نسعى من خلال هذا المقال، أن نسلط الضوء على مفهوم المجتمع الأخضر، وأدواره في العمل المناخي، مساهمة منا تهدف إلى تعزيز مشاركة المجتمع في العمل المناخي. من خلال تبني سلسلة من ورش العمل والمشاريع العملية والجهود التعاونية مع الجهات المعنية المحلية، بحيث من خلالها نسعى إلى بناء أساس متين للممارسات المستدامة والمرونة داخل المجتمع.
مفاهيم عامة
المجتمع الأخضر
يشير مفهوم المجتمع الأخضر إلى جميع الهيئات الرئيسية التي تساهم في أنشطة البناء، مثل تخطيط وتصميم المدن والقرى، وبناء وتأهيل البنيات التحتية، وبناء المزارع الخضراء، واعتماد تحسينات إيكولوجية بيئية مع التنفيذ الشامل والإدارة المتكاملة، والتنمية الصناعية الخضراء، مع التنفيذ الشامل للحفاظ على الطاقة، وتوفير الأراضي، ووفرة الموارد المائية والحفاظ على البيئة، وتشييد منشآت ومباني صالحة للعيش وآمنة ومؤهلة لاحتضان العمل اللائق الذي يتيح الفرص للجميع للحصول على عمل منتج يدر دخلاً عادلاً ويحقق الأمن في مكان العمل والحماية الاجتماعية للأسر ويكفل مستقبلاً أفضل لتطوير الذات والاندماج الاجتماعي.
كما يشير مفهوم المجتمع المحلي الأخضر إلى المجتمع الذي يعيش ضمن موارد النظم الإيكولوجية، ويتعايش مع مختلف مكونات الطبيعة، ويركز على الرفاهية، ولا يستهدف النمو الاقتصادي في حد ذاته، وإنما مراعاة الاقتصاد الأخضر والمستدام بيئيًّا، ومن أنماط المجتمعات المحلية الخضراء، نجد مثلاً: المجتمعات الحضرية الخضراء، والمجتمعات الريفية الخضراء، والمجتمعات الصناعية الخضراء، التي تتطلب جميعًا مزيداً من السياسات الخضراء، والصناعة الخضراء، والتكنولوجيا الخضراء، والطاقة الخضراء، الوعي والتعليم الأخضر، المنتجات الخضراء، والمنشئات والبنايات الأخضر، والمدن الخضراء، وأخيرًا الزراعة العضوية والخضراء.
المجتمع الأخضر هو المجتمع الذي يطبق ممارسات صديقة للبيئة لتلبية احتياجات أعضائه. وترتبط فلسفة المجتمع الأخضر ارتباطًا وثيقًا بالتنمية المستدامة، التي عرّفتها اللجنة العالمية للبيئة والتنمية عام ١٩٨٧ على النحو التالي:
يعيش أكثر من 80% من سكان أوروبا وأمريكا الشمالية في مناطق حضرية، ومن المتوقع أن تزداد هذه النسبة خلال السنوات القادمة. ويؤثر هذا التوسع الحضري السريع تأثيرًا بالغًا على عوامل مهمة أخرى، مثل تغير المناخ وتوزيع الثروة والعولمة
المفهوم الأخضر
يشار إلى اتباع الإرشادات والسياسات اللازمة للحفاظ على المنتجات والسلع والخدمات، دون التسبب في أي ضرر أو الحد الأدنى من الضرر للبيئة والموارد الطبيعية للأرض، بالمفهوم الأخضر. كما يُعدّ تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تزيد من الاحتباس الحراري هدفًا رئيسيًا للمفهوم الأخضر. لهذا الغرض يُعدّ المجتمع الأخضر مهمًا، بحيث يوفر العيش في مجتمع أخضر فوائد كثيرة لسكانه، بما في ذلك تحسين الصحة والرفاهية، ورفع المعنويات، وخفض تكاليف الطاقة، وهواء أنظف وذو جودة.
كما تتضمن فكرة المجتمع الأخضر قيام مؤسسات المجتمع المدني بتعميم فكرة احترام البيئة، وفكرة المسئولية المجتمعية، الواقعة على الأفراد بعدم الإسهام في التلوث بمختلف أنواعه ومصادره، كما تتضمن المسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسات التجارية والصناعية والشركات في إنتاج المنتجات الصديقة بالبيئة، وقيامها بمبادرات تطوعية من أجل تجويد البنية التحتية. كما يُعزز برنامج المجتمعات الخضراء الممارسات التي تُحسّن جودة البيئة، وتُعالج تغيّر المناخ، وتُخفّف من آثار التنمية على الموارد الطبيعية. وتُركّز جهود البحث على المشاريع والسياسات التي تُعطي الأولوية للبنية التحتية الخضراء/الزرقاء، والطاقة الخضراء، والنقل الأخضر.
المجتمع الأخضر والمناخ
يعد تغير المناخ، والموارد المائية، واحتياجات البنى التحتية مجرد نماذج محصورة على القضايا التي تواجهها المجتمعات الحالية في تخطيطنا للقرن الحادي والعشرين وما بعده. ويعمل المخططون على خلق التوازن بين المصالح قريبة المدى وطويلة المدى لتعزيز الاستدامة المجتمعية، من خلال إشراك المواطنين، ووضع الخطط، وتطوير السياسات المالية، ومراجعة المشاريع ذات البعد التنموي، وغيرها من إجراءات التخطيط، كما يعمل المخططون على تشجيع الاستثمارات والدعم المالي السليم للمشاريع التي تسعى إلى تحقيق التنمية الشمولية مع مراعاة الاستدامة البيئية والحفاظ على الموارد الطبيعية، وتبقيها على وضعها الأصلي، وتحافظ على التنوع البيولوجي، وتبني مجتمعات أكثر استدامة.
وفي كثير من الأحيان، تهدف مشاريع "تنمية المجتمعات الخضراء" إلى بناء رؤى تجريبية حول الأثر المحتمل للمبادرات التشاركية المجتمعية في المناطق الحضرية. وتبحث هذه المشاريع تحديدًا في أدوارها في تخفيف البصمة البيئية المرتبطة بإنتاج واستهلاك الغذاء. ومن خلال الترويج لنمط حياة قائم على النباتات، وتقصير سلاسل إمداد الغذاء، والحد من هدر الغذاء، كما تسعى المبادرات إلى وضع استراتيجيات فعّالة للحد من الضغط البيئي. أكيد على أن النتائج المتوقعة ستسهم بشكل كبير في النقاش الدائر حول أنماط استهلاك الغذاء لدى الأسر الحضرية وفي الأرياف والقرى، وفعالية التدخلات الغذائية التشاركية في هذه المناطق.
بطبيعة الحال، يُعدّ تغير المناخ، أحد الدوافع الرئيسية وراء إنشاء المجتمعات الخضراء، حيث تُوفّر المجتمعات المستدامة أسلوب حياة يُركّز على احتياجات الناس طويلة الأمد. وهذا أمرٌ حيويٌّ للصحة العامة للسكان وللكوكب، وتُركّز المجتمعات الخضراء على عوامل رئيسية مثل:
جودة الهواء والماء، والغذاء الصحي، والسكن الملائم.
التعليم الجيد، والثقافة المتشبعة بالحياة، والرعاية الصحية الجيدة، والوظائف أو المهن المُرضية، وتقاسم الثروة.
السلامة في الأماكن العامة، وتكافؤ الفرص، وحرية التعبير، وتلبية احتياجات الشباب وكبار السن وذوي الإعاقة.
هذا، يوفر العيش في مجتمع أخضر فوائد متعددة ومتنوعة لسكانه، بما في ذلك تحسين الصحة والرفاهية، ورفع الروح المعنوية، وخفض تكاليف الطاقة، وهواء أنظف. كما تعتمد المجتمعات المستدامة على مواد قابلة للتحلل الحيوي وإعادة التدوير في المباني والحدائق والعزل الحراري، مما يقلل من بصمتها الكربونية ويخفض استهلاك الطاقة. كما تُعدّ النباتات جزءاً أساسياً من بناء مجتمع أخضر، ولذلك نحن ملتزمون بتوفير مساحات أكثر خضرة ونظافة وصحة للمجتمعات حول العالم.
نحو ترسيخ العمل المناخي لدى المجتمع الأخضر
يُشكّل تغيّر المناخ تهديداً كبيراً للمجتمعات حول العالم، ويتجلى ذلك في الظواهر الجوية المتطرفة، وارتفاع منسوب مياه البحر، واضطرابات النظم البيئية المحلية. وبينما تلعب السياسات العالمية والاتفاقيات الدولية دوراً حيوياً في معالجة هذه الأزمة، فإن الحلول الأكثر فعالية غالبًا ما تبدأ على المستوى المحلي. فالمجتمعات المحلية تتمتع بمكانة فريدة تُمكّنها من تحديد تحدياتها الخاصة وتنفيذ حلول مُصمّمة خصيصًا تُعزز قدرتها على الصمود والاستدامة.
إن إشراك أفراد المجتمع في العمل المناخي لا يُمكّنهم فقط من تولي مسؤولية بيئتهم، بل يُعزز أيضًا الشعور الجماعي بالمسؤولية. ومن خلال تسخير المعارف والمهارات والموارد المحلية، يُمكننا تطوير استراتيجيات مُبتكرة تُعالج آثار تغيّر المناخ وتُحسّن جودة حياة السكان.
إن طريقة عيشنا وعملنا معاً في المجتمعات والمدن لها تأثير كبير في معالجة تغير المناخ. بحيث تُعد المباني الموفرة للطاقة، ووسائل النقل العمومية منخفضة الكربون، وتشجيع ركوب الدراجات والمشي، عوامل أساسية لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما يُقلل تخضير المدن بالحدائق والمتنزهات من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ويساعد على تلطيف الجو بالمناطق الحضرية والحد من الفيضانات. ويساعد التفكير والتصرف على المستوى المحلي المجتمعات على مكافحة تغير المناخ وبناء القدرة على التكيف مع آثاره. على سبيل المثال، يُمكن لإنتاج السلع والأغذية محليًا أن يُخفض تكلفة النقل، ويُقلل النفايات، ويُعزز الاقتصادات المحلية. لهذا، نبحث عن مجتمعات خضراء تعرض أفكاراً ومبادرات رائدة طُبّقت بالفعل ميدانياً وتبني إجراءات ملموسة، سواءً في المدن أو على المستوى القرى والأرياف، والتي تُخفف من آثار تغير المناخ أو تُساعد المجتمعات على التكيف معه. ما نسعى إلى مشاهدته أكثر هو أفلام وثائقية ومقاطع فيديو تُظهر إجراءات مُلهمة اتخذها المجتمع الأخضر للحد من تغير المناخ، بغض النظر عن مكان تواجدهم أو ما إذا كانوا يمتلكون أحدث المعدات.
تحقيق الهدف 13 ضمن أجندة التنمية 2030
يُمثل تغير المناخ تحدياً غير مسبوق يؤثر بشكل غير متناسب على المجتمعات المحلية، مما يؤدي غالباً إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية القائمة. ورغم الوعي الواسع بهذه القضية، تُكافح العديد من المجتمعات لتنفيذ إجراءات مناخية فعّالة بسبب نقص المعرفة والموارد والشبكات التعاونية. ويسعى الهدف 13 (العمل المناخي) من أهداف التنمية المستدامة (أجندة التنمية 2030) إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمكافحة تغير المناخ وآثاره. وقد بدأنا نلمس العديد من آثار تغير المناخ عند مستوى الاحترار الحالي البالغ 1.2 درجة مئوية. وسيؤدي أي ارتفاع إضافي في درجات الحرارة إلى تفاقم هذه الآثار، وقد يؤدي إلى نقاط تحول حاسمة، مثل ذوبان الغطاء الجليدي في جرينلاند. وفي هذا الصدد، يمكن للمجتمعات المحلية أن تُحدث تأثيراً أكبر في تقليل بصمتنا الكربونية من خلال تعزيز الاستدامة وخفض الانبعاثات. لهذا ينبغي تطبيق برامج إدارة النفايات لتقليل كمية النفايات الملقاة في المطارح / مكبات النفايات من خلال تقليلها وإعادة استخدامها وإعادة تدويرها. وأيضا يمكن أن تشمل الإجراءات ما يلي:
- تنظيم حملات لإحداث تغيير سلوكي
- تطوير وسائل تنقل أكثر استدامة
- إنتاج المنتجات والأغذية محليًا
- تقديم الخدمات للمتضررين من تغير المناخ
- تقليل استخدام الطاقة في المباني
- حلول محلية للوصول إلى الطاقة المستدامة وتحويلها
- خلق ثروة من النفايات في إطار الاقتصاد الدائري
- صيانة وتأهيل المساحات الخضراء
- تبني الاقتصاد التشاركي
- مزيدا من العمل في إطار المجتمع الأخضر
في مجتمعاتنا، يواجه السكان تحديات كبيرة تتعلق بتأثيرات المناخ، مثل زيادة الفيضانات، وموجات الحر، وانخفاض جودة الهواء. وتتفاقم هذه التحديات بسبب ضعف المشاركة والتفاعل في المبادرات المناخية، مما يجعل الكثيرين يشعرون بالعجز والانفصال عن الحلول الممكنة. إضافةً إلى ذلك، ثمة فجوة ملحوظة في فهم كيفية مساهمة الإجراءات المحلية في تحقيق أهداف المناخ العالمية.
في الختام، تمثل مؤتمرات المناخ الدولية والعربية في إطار المشاركة المجتمعية في العمل المناخي بغية بناء حلول محلية للتحديات العالمية والإقليمية والمحلية، فرصةً محوريةً لتسخير قوة المجتمعات في مكافحة تغير المناخ. فمن خلال تمكين السكان من القيام بدورٍ فعال في تحديد الممارسات المستدامة وتطبيقها، يُمكننا تعزيز المرونة، وتحسين النظم البيئية المحلية، وتعزيز ثقافة المجتمع الأخضر وترسيخ سلوكيات تجاه النظم الايكولوجية.