في مطلع القرن التاسع عشر، كان ارتباط الإنسان بالطبيعة أمراً بديهياً لا يمكن إنكاره، حيث يعد النهر بمثابة ملعب الطفولة، والأشجار ظل البيوت والناس، والطحالب والزهور ليست مجرد كلمات بل جزء من يومياتنا، ولكن بمرور السنوات تغير الأمر واختلف تماماً.
بحسب دراسة حديثة للبروفيسور مايلز ريتشاردسون من جامعة ديربي البريطانية ونشرتها مجلة "Earth" العلمية، تراجع هذا الارتباط بأكثر من 60% منذ عام 1800، وبالتالي لم تختف الطبيعة من حياتنا المادية فحسب، بل من لغتنا أيضاً، فالكلمات المرتبطة بها تقلصت في الكتب بنسبة كبيرة، حتى بلغت ذروة الانخفاض في تسعينيات القرن الماضي.
بيانات 220 عاماً.. ماذا أظهرت؟
اعتمد البروفيسور ريتشاردسون في بحثه على تحليل بيانات تمتد 220 عاماً، شملت معدلات التحضر، وانقراض الحياة البرية في الأحياء السكنية، وحتى التغيرات في الكتب والمناهج، وخلص إلى أن السبب الأهم وراء الانفصال عن الطبيعة هو توقف الآباء عن نقل التجارب الطبيعية لأطفالهم، ما أدى إلى ما يسميه "انقراض الخبرة" مع العالم الطبيعي.
السياسات الحالية.. خطوة صغيرة في طريق طويل
النماذج الحاسوبية التي طورها الباحث توقعت استمرار هذا الانحدار ما لم تحدث تغييرات جذرية، كما زادت المساحات الخضراء في المدن بنسبة 30%، رغم كونها خطوة كبرى بيئياً، لا تكفي لعكس الاتجاه.
وبعد تشغيل النماذج الحاسوبية، ظهرت النتيجة المفاجئة، إذ أن المدن تحتاج إلى أن تكون أكثر خضرة بعشر مرات مما هي عليه الآن، إلى جانب غرس الوعي البيئي في الأطفال منذ الحضانة ودمج الطبيعة في التعليم بشكل دائم.
حملات هامة ولكن ليست كافية
وظهرت حملات لتشجيع الناس للعودة إلى الحياة الخضراء، وأثبتت حملة مثل "30Days Wild"، وهي مجتمع من عشاق الطبيعة الذين يجتمعون معاً لمشاركة تجاربهم وطلب المساعدة وإلهام بعضهم البعض، والتي أثبتت أهميتها في تحسين الصحة النفسية وتشجيع الجميع إلى الخروج إلى الهواء الطلق، ولكنها لا توقف الانفصال بين الأجيال عن الطبيعة.
وفي هذا الصدد، يعد الحل الأكثر فعالية هو بناء علاقة قوية منذ الطفولة، بحيث تصبح التجارب الطبيعية جزءاً من هوية الفرد.
ومضة أمل
بالرغم من الصورة غير الإيجابية، اكتشف "ريتشاردسون" مؤشراً يعد بارقة أمل، فبعد عقود من التراجع، بدأت الكلمات المرتبطة بالطبيعة في الظهور مجدداً في الكتب، ويرجع ذلك إلى ارتفاع معدلات الوعي البيئي، أو ربما عودة ثقافية بطيئة نحو الحياة الخضراء.
يقول ريتشاردسون: "الطفل المولود اليوم يشبه تماماً طفل عام 1800 في فضوله تجاه الطبيعة، الفرق أننا أصبحنا نقطع هذا التواصل تدريجياً، إذا أردنا تغيير المسار، علينا أن نحافظ على هذا الفضول حياً، ونغرس الطبيعة في قلب الحياة اليومية".