قبل ما يزيد عن 30 ألف عام، ومن خلال أدوات بدائية بسيطة، بدأت علاقة البشر بعزف الموسيقى التي احتفظت - مع تطور الزمان - بمكانتها كوسيلة ساحرة قادرة على التعبير عن مشاعرهم والمشكلات التي تواجههم.. فهل يمكنها التعبير عن أكبر أزمة يواجهها الإنسان حالياً: التغير المناخي؟
آخر محاولات العلماء للتعبير عن التدهور الذي نال الأرض قام بها أحد علماء اليابان، عبر ما يسمى بـ"صوتنة البيانات".
مقطوعة مناخية
واستعان هيروتو ناجاي الملحن الموسيقي وعالم البيئة الجيولوجية في جامعة ريشو اليابانية ببيانات مناخية مأخوذة من عدة مناطق قطبية في الفترة التي تمتد بين عامي 1982 و2022، وانتهت بتأليف مقطوعة موسيقية كاملة تمتد لـ6 دقائق كاملة، وفقاً لدورية "i Science".
4 مواقع اعتمد عليها "ناجاي" في إتمام مهمته، وهي محطة أرصاد صفيحة جرينلاند الجليدية الواقعة في القطب الشمالي، ومحطة أرخبيل سفالبارد الفضائية بالنرويج، علاوة على المحطتين اليابانيتين "شوا" و"قبة فوجي" بالقطب الجنوبي. وشملت المعلومات بيانات شهرية لدرجات الحرارة، وسُمك السحب الموجودة بتلك المناطق، ومعدلات الأمطار، وغيرها.
لكن الموسيقى التي أنتجها "ناجاي" لم يجر تأليفها بالطريقة التقليدية؛ إذ استخدم أولاً برنامجاً رقمياً يعمل على تحويل البيانات المدخلة إلى أصوات، قبل أن يقرر الآلات الموسيقية المستخدمة في عزف رباعيته الوترية وهي: آلتا كمان، وآلة فيولا، وآلة تشيلو.
لم يلتزم "ناجاي" بالترتيب الزمني للبيانات المناخية، بل أعاد ترتيبها ودمجها مع النوتات التي أضافها لجعل تلك الأصوات تبدو أكثر موسيقية، وتنجح في نقل القصة.
يقول العالم الياباني، في تصريح نقله موقع "Japan Times": "عندما نروي قصة التغير المناخي، فالأمر ليس بسيطاً، فلا يمكنني أن أقول: أوقفوا تغير المناخ".
موسيقى الاحترار
ولم تكن تلك المرة الأولى التي تساهم فيها البيانات المناخية في إنتاج موسيقى تعبر عما آلت إليه الأوضاع على الأرض؛ ففي عام 2015 على سبيل المثال، نجح دانييل كروفورد الطالب في جامعة مينيسوتا الأمريكية في تأليف مقطوعة تعبر عن تغير درجات الحرارة منذ القرن التاسع عشر.
مصدر الصورة: جامعة مينيسوتا
ولم تختلف الآلات الموسيقية التي اختارها "كروفورد" عن التي لجأ إليها العالم الياباني مؤخراً، وقام بالعزف عليها برفقة 3 من زملائه في مقطع فيديو نشره الحساب الرسمي لقسم البيئة بالجامعة، ظهر فيه الرموز التي يدل عليها كل جزء من الموسيقى المؤلفة.
الموسيقى ذات الإيقاع المرتفع لعبت دور التعبير عن درجات الحرارة الأعلى، ومن ثم كلما تقدمت المقطوعة ارتفع إيقاع النوتة الموسيقية.
وتمثل دور "التشيلو" في التعبير عن المنطقة الاستوائية، بينما جاءت "الفيولا" لتتحدث عن خطوط العرض الوسطى، وأحد آلتي الكمان عن خطوط العرض العليا، بينما تتبعت الآلة الأخرى درجات الحرارة في القطب الشمالي.
هل يمكن للموسيقى أن تُحدث فارقاً؟
يصف برنامج الأمم المتحدة للبيئة الموسيقى بأنها "واحدة من أقوى الوسائل التي يمكن استخدامها في نقل الرسائل البيئية إلى المليارات من البشر حول العالم، بغض النظر عن العرق، أو الدين، أو الدخل، أو النوع الاجتماعي، أو العمر".
لكن كيفية توظيف أنغام الموسيقى في العمل المناخي لا زال يحتاج إلى إجراء المزيد من الأبحاث العلمية، ليس فيما يخص التعبير عن الأزمات البيئية فحسب، بل في التشجيع على السلوكيات المستدامة.
في عام 2022، طرحت هيلين بريور إحدى باحثي علم النفس الموسيقي في جامعة هال البريطانية ورقة علمية نشرتها جمعية أبحاث التعليم والموسيقى وعلم النفس "Sempre"، تناولت فيها مدى فاعلية الموسيقى في مواجهة التغير المناخي.
"بريور" أشارت إلى نتائج دراسات سابقة كشفت عن وجود رابط بين الذوق الموسيقي للفرد وبين مدى الالتزام بسلوكيات صديقة للبيئة، ومن بينها العلاقة بين الاستماع إلى موسيقى الأوبرا، والموسيقى الكلاسيكية، وموسيقى "البوب" التي جرى إنتاجها خلال فترة الستينيات، وبين زيادة الإقبال على إعادة تدوير المواد.
كما طرحت فيه قائمة من الحلول التي يجب على العلماء إجراء المزيد من البحث حولها، ومن بينها كيفية استخدام الاستجابة العاطفية للموسيقى لتعزيز السلوكيات المستدامة.
على سبيل المثال، فإن ربط استخدام وسائل النقل العام، أو ركوب الدراجات، أو المشي مع اختيارات موسيقية خاصة بالأفراد يمكن أن يجعل أشكال النقل الأكثر صداقةً للبيئة أكثر جاذبيةً بالنسبة إليهم.