تفقد بعض الكائنات البحرية بوصلتها الحياتية وتعجز عن إتمام مهامها اليومية، على وقع آثار التغيرات المناخية، والتي يأتي من بينها حموضة المحيطات.
وتمتص المحيطات حوالي 30 بالمئة من ثاني أكسيد الكربون الذي ينتجه الإنسان، ما يتسبب بخفض درجة الأس الهيدروجيني في مياه البحر، وتُعرف هذه العملية باسم تحمض المحيطات.
وتتفاقم المشكلة مع ارتفاع معدلات ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي بنسبة 50 بالمئة عن المعدلات التي كانت عليها ما قبل الثورة الصناعية.
خطر وشيك
الأكثر قراءة
وعلى سبيل المثال، يصطاد سلطعون الروث، وهو أحد أنواع سرطان البحر، فريسته من خلال تحريك قرون الاستشعار لتحديد مكان فريسته المحتملة، لكن هذه الطريقة باتت في خطر، نظرا لتفاقم ظاهرة حموضة المحيطات، وفق بحث علمي جديد.
وأجرى علماء جامعة تورنتو سكاربورو الكندية، تجربة بوضع عدد من هذا السلطعون في مياه ذات درجة حموضة أعلى بفارق طفيف عن المعدلات الطبيعية، وهي الظروف التي قد تسود في المستقبل إذا استمرت انبعاثات غازات الدفيئة، ليكتشفوا أنه بات بحاجة إلى التعرض لتركيز أكبر من "الكادفرين"، وهو مركب كيميائي يرشده إلى وجود الغذاء، بفارق 10 مرات عن المعدل الطبيعي، وفق موقع مجلة "Hakai" المتخصصة في موضوعات البيئة البحرية.
لكن المخاطر لا تحيط بسلطعون الروث وحده، إذ تهدد ظاهرة التحمض العديد من الكائنات البحرية بالحرمان من قدراتها في رصد الإشارات الكيميائية، ولا زالت الأبحاث التي تتناول هذه الظاهرة محدودة، لكن مع التطور الذي يشهده المجال فإن النتائج المحتملة لتلك الظاهرة تزداد وضوحاً.
ويتوقع جورج هارديج، أحد علماء البيئة الكيميائية في جامعة هل البريطانية، أن كافة المواد الكيميائية الموجودة في البحار تقريباً يمكن أن تتعرض لتلك التأثيرات، حيث تستخدم الكائنات البحرية العناصر الكيميائية لرصد الغذاء و التزاوج وتجنب الحيوانات المفترسة التي تقترب منها.
كل واحدة من تلك الإشارات عبارة عن مركب له تركيب كيميائي وشكل فيزيائي مميز، لكن هذه المحفزات تتحرك في المياه، وبالتالي فهي عرضة لمجموعة مختلفة من التفاعلات الكيميائية.
يقول هارديج إن المياه ذات الدرجات الأعلى من الحموضة تحتوي على عدد أكبر من الأيونات الهيدروجينية الموجبة الشحنة، وهي التي يمكن أن تتداخل مع الإشارات الكيميائية لتغير شكلها، كما يمكن لتلك الأيونات أن تؤثر على المستقبلات لدى الحيوانات، وتغير كيفية تعاملها.
يضيف هارديج: "إذا ما اعتبرنا هذه الإشارات الكيميائية لغة يجري التواصل بها، فالأمر يبدو كما لو باتت الكلمات تخرج بصوت مختلف، وفي الوقت نفسه تتغير الطريقة التي تلتقط بها أذناك تلك الأصوات".
تغيير السلوك
وكشفت دراسة شارك بها هارديج، أن تراجع قدرة الكائنات على التقاط الإشارات تغير من سلوكها، وتمتد الآثار كذلك إلى بعض الأسماك التي تواجه صعوبة في المياه الأكثر حموضة.
وبحسب إحدى الدراسات التي نشرت في دورية Nature Climate Change، بدا سمك السلمون الوردي أقل قدرة على تجنب الكائنات المفترسة للسبب نفسه، وهو الأمر الذي تكرر مع سمكة الدنيس المذهبة الرأس، وهي إحدى الأسماك الأوروبية المنتشرة.
ومن المتوقع أن تصبح مستويات الحموضة التي أجرى العلماء تجارب بشأنها سائدة بنهاية القرن الحالي، إذا ما تحققت التوقعات المناخية المتطرفة، لكن مع ظاهرة وصول مياه القاع إلى السطح، فإن بعض البيئات الساحلية تشهد بالفعل هذا المستوى من التحمض موسمياً.
ولن تمنع السيطرة على انبعاثات الكربون المستقبلية ارتفاع مستوى حموضة المياه بالنظر إلى إجمالي مياه المحيطات، في الوقت الذي يتمتع فيه كل نوع من أنواع الكائنات بحد أقصى خاص به تعطل عندها الحموضة المتزايدة قدرته على اكتشاف مواد كيميائية بعينها، لكن العلماء لم يتمكنوا بعد من تحديد تلك المستويات.
وخلافا للرأي السابق، تقول كريستينا روجاتز، عالمة البيئة المتخصصة في الكيمياء البحرية في جامعة بريمن الألمانية، إن التحمض لا يؤدي دائماً إلى تراجع حساسية الكائنات تجاه المواد الكيميائية، حيث كشفت إحدى الدراسات أن تلك الظروف تزيد من اجتذاب سلطعون الناسك نحو إشارة بعينها، لكنها ترى أن انتشار تلك الظاهرة قد يقلب توازن التواصل الكيميائي في المحيطات، بسبب تصاعد قوة بعض الإشارات، وتراجع البعض الآخر.
ورصدت روجاتز أيضا تزامن ارتفاع الحرارة مع تزايد الحموضة، الأمر الذي يؤدي إلى تصاعد درجة سمية مركب ساكسيتكسين، وهو سم عصبي ينتج عن المحار الملوث بالبكتريا أو الفيروسات، كما تزداد سمية مركب التيترودوتوكسين الذي تنتجه السمكة المنتفخة، والأخطبوط ذو الحلقات الزرقاء، وغيره من الكائنات البحرية.
ودعا هارديج وروجاتز وغيرهم من الباحثين، في ورقة علمية العام الماضي، إلى الاهتمام بدراسة تأثير تلك التغيرات على سلوك الكائنات البحرية، إذ لفت الأول إلى سيناريو التكيف، بينما انحازت الثانية إلى حماية النظم البيئية من ظاهرة التحمض في المياه.