عندما يتحدث العلماء عن آثار التغيرات المناخية التي تهدد كوكبنا، لا بد لهم من استقراء المستقبل عبر أرشيف الأرض المدون في علمَي الجيولوجيا والحفريات، الذي رصد التغيرات المناخية في الأزمنة السحيقة والقريبة بين صخور الصحاري وفقرات الحفريات.
"جرين بالعربي" حاور الدكتور هشام سلام أستاذ علم الحفريات بالجامعة الأمريكية الحائز على جائزة روبرت لين كارول تقديراً للتميز العلمي غير المسبوق في علم الحفريات الفقارية، ومؤسس مركز الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، وقائد فريق "سلام لاب" أول فريق مصري متخصص في دراسة الحفريات الفقارية، الذي تحدث عن التأثير المتبادل بين التغيرات المناخية والحفريات، وكيف يمكن استقراء مستقبل الأرض المناخي عبر الجيولوجيا والحفريات.
من تاريخ علم الحفريات.. ما فترات التغير المناخي عبر الزمن؟ وكيف أثرت على تطور الكائنات؟
فترات التغير المناخي ظهرت منذ بداية تكوُّن الكرة الأرضية ونشأة الحياة عليها، وشهد الكوكب مئات الفترات من التغير المناخي عبر الأزمنة.
يمكن القول: التغيرات المناخية هي – حرفياً – التي شكَّلت الحياة على الأرض، وهي السبب في التنوع البيولوجي الذي نراه الآن للكائنات الحية. ولو بدأنا سلسلة الحياة على الأرض من كائن وحيد الخلية حتى هرم الحياة الآن، فإن الإنسان يُعَد مراحل تطورية مرت بها الحياة على الأرض نتيجة التغيرات المناخية؛ إذ إن التغير المناخي هو العامل الأساسي في تشكيل خريطة الكائنات الحية على الأرض.
أما فترات التغير المناخي عبر التاريخ، فهي كثيرة جداً حتى في علم الجيولوجيا، يتم فصل العصور بعضها عن بعض نتيجة التغيرات المناخية التي حدثت على الأرض في هذا الوقت، وهي الفاعل الأساسي في تطور الكائنات الحية.
ما الإشارات التي رصدها علم الحفريات الدالة على قوة التغيرات المناخية عبر تاريخ الكرة الأرضية؟
ليس فقط الحفريات وتغيُّرها، ولكن أيضاً الصخور. لو رأينا مجموعة متنوعة من الصخور الرسوبية بعضها فوق، مثل حجر رملي فوق حجر جيري في مكان واحد، فهذا معناه أن هذا المكان شهد تغيرات مناخية أدت إلى تكون صخور مختلفة، ومن ثم أدت إلى حياة مختلفة.
ففي منطقة وادي الحيتان بمحافظة الفيوم المصرية – على سبيل المثال – حفريات حيتان وقواقع وكائنات بحرية كثيرة من أسماك وتماسيح، وهذا يدل على أن تلك المنطقة في فترة من الزمن كانت ضمن قاع محيط.
وعندما نتحرك نحو طبقة أعلى من الصخور، نجد حفريات لقردة وفيلة وأسلاف وحيد القرن وجميع الكائنات التي تعيش الآن في الغابة؛ هذا يعني أن الفيوم كانت غابة استوائية.
والسبب الرئيسي في الانتقال من قاع محيط إلى غابة استوائية مطيرة في المكان نفسه هو التغير المناخي؛ إذ إن تنوع الصخور واختلاف الحفريات – سواء بحرية وبرمائية، أو كائنات تعيش في الغابة – دليل على تغير المناخ.
التغير يؤدي إلى تغييرات فسيولوجية بالكائنات؛ إذ يؤدي إلى تطورها عبر الزمن. ويجب أن نعرف هنا أن التطور الذي يحدث في الكائنات الحية لا يحدث في ليلة وضحاها، بل عبر ملايين السنين حتى نرى التغير ملحوظاً على الكائن
ما دور التغيرات المناخية في انقراض أو تطور الحيوانات وفق ما يرصده علم الحفريات؟
التغيرات المناخية هي الفاعل الرئيسي مثلما أوضحتُ في السابق، الذي بدوره يُطوِّر الحياة فيتطوَّر الكائن الحي.
على سبيل المثال، إذا أدى التطور المناخي إلى البرودة فسيتكون فرو على جسم الكائنات أو ما شابهه، أو سينتقل من منطقة إلى منطقة ليُغيِّر بيئة المعيشة، ويذهب إلى مناطق أخرى بتحديات جديدة بتغيرات مختلفة.
التغير يؤدي إلى تغييرات فسيولوجية بالكائنات؛ إذ يؤدي إلى تطورها عبر الزمن. ويجب أن نعرف هنا أن التطور الذي يحدث في الكائنات الحية لا يحدث في ليلة وضحاها، بل عبر ملايين السنين حتى نرى التغير ملحوظاً على الكائن.
ويمكن هنا ضرب المثل بالحيتان؛ فالعالم كله يعرف أنها بدأت كائنات برية، وهي الآن تعيش في البحار والمحيطات، ولكن ما وقت الرحلة لهذا التحول؟ الإجابة: أكثر من 10 ملايين سنة من كائن بري يعيش على اليابس إلى كائن يعيش بالكامل في الماء حتى نلاحظ ذلك بأعيننا.
منذ عامين، سجَّلنا في بحث علمي انقراضَ أكثر من 66% من الثدييات التي تعيش في إفريقيا نتاج التغيرات المناخية، لكن استطاع القرد المصري أن يواجه هذا الانقراض وينجو.
من المعلوم أن الحيتان كانت ذات يوم كائنات أرضية ثم اتجهت إلى البحر وتطورت.. هل للتغيرات المناخية آنذاك دور في هذا التطور؟
مُؤكَّد أن التغير المناخي هو الفاعل في حياة الكائنات على الأرض، وانتقال الكائنات بين المراحل المختلفة في التطور، سواء كان التطور واسعاً أو طفيفاً؛ وذلك نتاج التغيرات المناخية على الكرة الأرضية.
تلعب التغيرات المناخية دوراً كبيراً في انقراض السائد وهيمنة غير السائد؛ فالتغيرات المناخية التي حدثت للكرة الأرضية في أواخر أيام الديناصورات – مثلاً – بسبب ارتطام نيزك كبير وضخم بالأرض أدى إلى انقراض السائد، وهو الديناصورات، وملوك الأرض في ذلك الوقت، وهيمنة الثدييات التي كانت مُهمَّشة أيام الديناصورات، وبدأت تتطور بشكل ملحوظ وكبير، نتيجته ما نراه اليوم.
كيف يساعد علم الحفريات في عمليات مكافحة أخطار التغيرات المناخية؟
نحن نملك سجلاً ضخماً من الماضي محفوظاً في طبقات الأرض، ونحن – علماء الحفريات – نُنقِّب عن أدلة ملموسة تدلُّ عمَّا حدث للكائنات المهيمنة في وقت ما.
علم الحفريات هو قراءة الماضي لفهم الحاضر، ونستنتج ما الذي سيحدث في المستقبل بناءً على الأدلة المُرسَلة من الماضي. وبمعنى آخر: نقرأ المستقبل بعيون الماضي؛ لذا من الذكاء أن نستخدم معلومات الماضي لنعرف ما الذي سيحدث بالمستقبل، ونتجنَّب إسراع وتيرة التغيرات المناخية التي يمكن أن تؤدي إلى انقراض الإنسان مثل ما حدث في السابق من انقراض ملوك الأرض "الديناصورات" وما شابه.
ما الإجراءات المستدامة التي تتبعونها خلال عمليات التنقيب عن الحفريات خلال عملكم؟
أهم إجراء قبل عملية التنقيب هو قراءة الدراسات السابقة عن المنطقة. وعندما نذهب إلى أي مكان، نريد أن نجيب على سؤال علمي ليس له جواب؛ لذا يجب أولاً إعداد أجندة تحضيرية للعمل السابق، وما الذي نريده من العمل الحالي، وما الذي ستقدمه للعلم في الوقت الحالي.
ونحن في "سلام لاب" نحافظ على البيئة والصحراء وسلوكنا بها، وغير مسموح بإلقاء أي مهملات، ولو ورقة، على الأرض في الصحراء، وممنوع إلحاق الأذى بأي كائن حي حولنا؛ لأننا ضيوفهم في مكان وطنهم.
عملية دفن المخلفات تتم عبر باحثينا بطريقة صحية جداً للمحافظة على البيئة بقدر المستطاع؛ لتقليل التلوث في الصحراء، ولنحافظ عليها وكأنها مكان نعيش بداخله.
هل تؤثر التغيرات المناخية في عملكم خلال التنقيب عن الحفريات؟
طبعاً التغيرات المناخية لا تؤثر علينا فقط؛ بل تؤثر على كل كائن يعيش على الأرض في يومنا هذا. أحياناً كثيرةً نواجه موجات حر شديدة جداً، وهذا يؤثر على سلوك الكائنات الحية على كوكب الأرض ونحن منهم.
إجراء التنقيب في جو مناسب يختلف عن التنقيب في جو شديد الحرارة؛ لذا فإن العالم كله يهتم بتأثير التغيرات المناخية على كوكب الأرض، مثل ذوبان الجليد على القطبَين الشمالي والجنوبي؛ ما يؤدي إلى غرق سواحل القارات، ويؤدي إلى نزوح البشر. وهذه إحدى المراحل المؤدية إلى انقراض الإنسان؛ لأننا سنكون في أماكن لم يكن لنا فيها وجود في السابق.
في رأيك، ما خطورة المحاولات العلمية لإعادة جينات الحيوانات المنقرضة في المعامل؟ وهل يمثل ذلك خللاً بيئياً؟
طبعاً أكيد بنسبة مليون في المئة أن أيَّ محاولات لإحياء حيوانات الماضي معملياً قد تنجح، لكن عملياً هي خطوة غير محسوبة؛ فمن الممكن أن تؤدي إلى خلل بيئي بشكل أو بآخر.
مثلاً إذا نجحت المعامل في إنتاج كائن بقوة الغوريلا وعقل الإنسان، من الممكن أن يقضي على الإنسان نفسه، المثال نفسه في إحياء الديناصورات لا يمكن العيش معه؛ فهذه التجارب تُسبِّب خللاً بيئياً طبعاً، وأضراراً لا يُحمَد عقباها.
ما الذي سيحدث في شكل الإنسان أو شكل أي كائن حي؟ الإجابة هي: لا نعلم، ولكنه سيحدث بناءً على الأدلة العلمية من الماضي والحاضر، لكن لا يستطيع أحد توقع شكل التطور
هل يمكن التنبؤ بتطور الكائنات في المستقبل وفق ما نرصده من تغيرات مناخية؟
التطور عملية مستمرة حدثت وتحدث وستحدث، والتطور ليس قاصراً على شيء بعينه؛ هو يشمل كل الكائنات الحية على الأرض، وهذا مذكور في الأبحاث التي تشمل الجينات والحفريات.
نرى أن الحفريات في طبقات الزمن السحيق أقل تطوراً من الطبقات الأحدث، وهكذا في عملية التطور تحدث لكنها عشوائية.
ما الذي سيحدث في شكل الإنسان أو شكل أي كائن حي؟ الإجابة هي: لا نعلم، ولكنه سيحدث بناءً على الأدلة العلمية من الماضي والحاضر، لكن لا يستطيع أحد توقع شكل التطور.
بوجه عام.. ما تأثير التغيرات المناخية على تطور وسلوك الكائنات؟
هناك تأثر واضح في السلوك وتطور فيسيولوجي داخلي؛ فمثلاً عندما نقول إن العصور المطيرة في مصر شهدت وجود أسود، فإن التغيرات المناخية والتصحر أدَّيَا إلى نزوح تلك الكائنات إلى السودان؛ حيث مجتمع جديد وكائنات جديدة، ومن ثم تغيَّر سلوكه مثله مثل أي شخص يسافر إلى دولة غريبة؛ سيحاول تغيير سلوكه للتأقلم والتكيف مع الوضع الجديد.
ما دور علم الجيولوجيا في مكافحة التغيرات المناخية؟
علم الجيولوجيا يعطي رؤية؛ فهو يقرأ المستقبل بعيون الماضي، ويعطي أدلة ملموسة عما حدث بالعصور السابقة، ويُفسِّره ويربطه بالحاضر الذي نعيشه ليقول ما الذي سيحدث في المستقبل إذا استمر هذا الوضع بناءً على الدروس المستفادة من الماضي.
هل التغيرات المناخية حدثت في الزمن السحيق قبل ذلك؟ وما تأثيرها على تطور الحياة على الأرض؟
علم الجيولوجيا يُقسِّم العصور الجيولوجية من سحيق الزمان إلى يومنا هذا، وهو في الحقيقة يعتمد اعتماداً كبيراً جداً على التغيرات المناخية التي طرأت عبر تلك العصور.
مثلاً عند تقسيم الزمن الجيولوجي إلى حقبات ثلاثة هي: الحياة القديمة والحياة المتوسطة والحياة الحديثة، الفاصل بينها دائماً يأتي نتيجةً لتغيرات مناخية دراماتيكية حصلت من زمن سحيق، أدَّت إلى تطور الكائنات لتوالي المناخ الجديد؛ ولذلك تنقرض بعض الكائنات.
ومن ثم فإنه في زماننا الحالي، عندما نقول: يجب أن نأخذ في الاعتبار آثار التغيرات المناخية، فإننا لا نقول ذلك لتغيير الجو ودرجات الحرارة فقط، بل لأثر ذلك على النظام البيئي والخلل الذي سيحدث به نتيجة التغيرات المناخية، والذي سيؤدي إلى انقراض بعض الكائنات الحية، ويمكن لهذا الانقراض أن ينال الإنسان.