أبنية تقاوم ثلاثية الرعب المناخي.. الحر والفيضانات والجفاف


مروة بدوي
الاثنين 10 يوليو 2023 | 11:23 مساءً

مضمار سباق غير محدد السرعة أو المدة، وجد البشر فيه أنفسهم في منافسة مع الزمن للتكيف مع التغيرات المناخية، بعد عقدٍ مضى من الألفية الثالثة كان هو الأكثر سخونةً في تاريخ البشرية؛ إذ تحولت الحرائق والفيضانات المروعة والأعاصير من ظواهر طبيعية عادية إلى متطرفة، وارتفعت الانبعاثات بنسبة 62% ممَّا كانت عليه في نهاية القرن العشرين.

"التكيُّف" هنا يهدف إلى تجنُّب أو تقليل الضرر مع الاستفادة من الفرص إذا وُجدت، ويمكن تطبيقه في أي مجال يخدم البشر، ويحميهم من تقلُّبات الطبيعة، مثل قطاع البناء؛ لأن المنازل تمثل حاجزاً ضد البيئة الخارجية التي تخضع للتغير البيئي واحتمالية وقوع الكوارث.

بيوتنا يمكن أن تصبح ملاذاً آمناً من الكوارث المناخية، عبر الاستثمار في مبانٍ لديها قدرة على المقاومة، وتتمتع بتصميم جيد؛ ما يوفر مليارات الدولارات تضيع في الخسائر والأضرار.

صناعة الأسمنت تُعتبَر ضارة جداً بالمناخ؛ فقد وصلت الانبعاثات الناجمة عن إنتاج مواد البناء من خرسانة وفولاذ وألمونيوم وزجاج وطوب، إلى 3.6 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون. وقد شكَّلت صناعة البناء والتشييد 37% من نسبة الانبعاثات الكربونية العالمية، حسب تقرير الحالة العالمية للمباني والتشييد لعام 2022 الصادر عن التحالف العالمي للمباني والتشييد (Global ABC)، الذي يستضيفه برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

وإذا تمكَّنا من جعل قطاع البناء أكثر صداقةً للبيئة، فسوف تقل الانبعاثات، وحينها سوف تلعب هذه الصناعة الحيوية دوراً مهماً في الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري.

الاستثمار في بنية تحتية مرنة أيضاً تعمل على تقليل عواقب الكوارث الطبيعية والتغيُّرات المناخية على الأنظمة الأساسية للبناء، مثل الطاقة والمياه والصرف الصحي والنقل والاتصالات؛ سوف يوفر 4.2 تريليون دولار في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل.

الانبعاثات الناجمة عن إنتاج مواد البناء من خرسانة وفولاذ وألمونيوم وزجاج وطوب وصلت إلى 3.6 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون

ومن ثم، قدَّم برنامج الأمم المتحدة للبيئة دليلاً عملياً للمباني والمجتمعات المقاوِمة للتغيرات المناخية، مع شرح سبل تشييد المساحات المجتمعية بطريقة تجعلها أكثر مرونةً وقدرةً على التكيف مع التغيرات، لا سيما في الدول النامية، وهو الدليل الذي يجمع بين حلول البناء "الرمادية"، مثل التصميم والتخطيط، مع الحلول "الخضراء" القائمة على الطبيعة، ويُوضِّح أن المزج بينهما يؤدي إلى نتائج واعدة في صناعة البناء.

بناءً على ذلك، وضع دليل الأمم المتحدة خريطة لأهم طرق مقاوَمة المباني لظواهر التغير المناخي، مع تطبيقها على بعض دول المنطقة العربية.

الفيضانات.. دول الخليج

هناك أنواع عديدة من الفيضانات منها المفاجئة نتيجة هطول أمطار غزيرة خلال فترة قصيرة، والساحلية الناجمة عن ارتفاع غير طبيعي في مستويات المياه الساحلية نتيجة الرياح والعواصف الشديدة والأمواج.

ويؤدي تغير المناخ إلى زيادة الفيضانات في أجزاء كثيرة من العالم. وبين عامي 1995 و2015، أثرت الفيضانات على حياة 2.3 مليار شخص بالعالم، بما يمثل 47% من الكوارث الناتجة عن سوء الطقس.

وتُعَد الفيضانات والأمطار الغزيرة من ظواهر التغير المناخي التي تتعرض لها دول الخليج، ووفقاً لمنصة ThinkHazard المتخصصة في تحديد مستوى المخاطر الطبيعية في كل منطقة جغرافية، والصادرة عن الصندوق العالمي للحد من الكوارث والتعافي منها، وتصل مخاطر الفيضانات في الكويت والسعودية والإمارات وسلطنة عمان وقطر إلى مستوى عالي الخطورة.

لذلك سيكون من المطلوب في الفترة المقبلة الاهتمام بتقنيات البناء في دول الخليج، التي تأخذ في اعتبارها مخاطر الفيضانات بأنواعها. وينصح دليل الأمم المتحدة للمباني من البداية بتجنب البناء في المناطق المعرضة للفيضان، إذا كان ذلك متاحاً.

أما إذا لم يكن ممكناً فهناك عدة اقتراحات لمعالجة تصميم المباني لتتحمل الفيضانات، منها:

المباني المائية أو رفع المنازل فوق مستوى الفيضان: حيث يتم بناؤها على ارتفاع يُقدَّر بنحو 2.5 متر من الأرض؛ للسماح بتدفق المياه تحتها، ومع الوقت سوف ينمو غطاء نباتي في هذه الأراضي الرطبة يمكن استغلاله.

المباني العائمة للتأقلم مع الفيضان: وهي المباني التي تم تصميمها لتطفو على الماء؛ فعند ارتفاع منسوب المياه حول المبنى، يمكن أن تنفصل قاعدته حتى يطفو على السطح، وهي التقنية المستخدمة في بناء أول (مدينة عائمة) في بوسان بكوريا الجنوبية.

هذا بجانب أسلوب آخر مستخدم في بنجلاديش لمبنى قابل للطفو يرتكز على أعمدة ذات خزانات عائمة ترفعه على السطح أثناء الفيضانات.

عند تصميم المنزل أو تخطيطه، من المُفضَّل جعل غرف النوم في الطابق العلوي. أما المطبخ والمساحات المشتركة فتوضع في الدور الأول.

اعتماد الأسطح المستطيلة أو المربعة ذات المنحدرات المتعددة للتخلص من المياه، والحد من وجود أي بروز على الأسطح؛ حتى لا يعيق تصريف المياه، وإحكام إغلاق الزوايا والثقوب وجميع النقاط التي تسمح بدخول الأمطار.

استخدام مواد بناء مقاوِمة للماء، مع الاهتمام بالبنية التحتية، مثل وسائل الصرف المستدام لتوجيه المياه بعيداً عن البناء في أسرع وقت ممكن من خلال أنابيب الصرف بشكل صديق للبيئة.

وينصح الدليل بالحلول الخضراء، مثل غرس الأشجار التي تعمل على تحسين استقرار التربة وحماية المجتمعات من الفيضان؛ لكونها تحتفظ بالماء وتمتصه داخل الأرض.

أما في المناطق الحضرية، فتصبح الفيضانات أكثر تواتراً؛ لذلك يجب تشييد المنازل بحيث تكون أكثر قدرةً على التعافي بعد الفيضانات أو تسرب الرطوبة مع اعتماد تقنيات مثل حفظ الأنظمة الكهربائية والتدفئة والتهوية في أماكن مرتفعة فوق مستوى الفيضان.

الاختيار الدقيق لمواد البناء التي تتحمَّل أضرار الرطوبة، مع الجدران العازلة التي تمتص الماء؛ ما يساعد على إطالة عمر المبنى ويقلل الخسائر.

استخدام مواد لرصف الطرق تسمح بمرور مياه الأمطار إلى داخل الأرض؛ ما يقلل الجريان السطحي للماء.

حلول خليجية عملية

على غرار مشروع المدن الإسفنجية في الصين القائم على تجربة حلول الهندسة البيئية لامتصاص مياه الأمطار وإعادة تدويرها في أكثر من 30 مدينة صينية لتقليل مخاطر الفيضانات؛ تم في نهاية العام الماضي، إطلاق مبادرة "المدن الإسفنجية" أثناء معرض تكنولوجيا المياه والطاقة والبيئة في دبي. وتُقدِّم هذه التكنولوجيا المبتكرة والمستدامة حلاً لمخاطر الفيضانات وندرة المياه، وهي المشكلة التي تتأزم مع التغير المناخي في المنطقة.

وهنا تُستخدَم أرضيات مصنوعة بتقنية الرمال المسامية التي تسمح بنفاذ نسبة كبيرة من مياه الأمطار إلى باطن الأرض، والاحتفاظ بها بشكل مستدام داخل مخازن جوفية، ثم إعادة استخدامها بعد ذلك في أغراض أخرى مثل الزراعة.

موجات الحر الشديد.. مصر

تعود ٢٧% من حالات الوفيات بالعالم، خلال الفترة من 1995 و2015، إلى الكوارث الناتجة عن سوء الظروف الجوية، ولا سيما موجات الاحترار المسؤولة عن النسبة الكبرى منها. وفي ظل تغير المناخ، فإن من المتوقع أن يشهد المجتمع البشري ارتفاعاً شديداً في الحرارة والرطوبة، مع تزايد القلق حول المدن بشكل خاص، بسبب المباني والأسطح الخرسانية ومحدودية المساحات الخضراء بجانب الكثافة السكانية العالية.

وتُعَد مصر من الدول التي تتأثر بقوة بالتغيرات المناخية، ونتيجة الظواهر الجوية الشديدة، ومنها موجات الحر؛ حيث تم تسجيل تصاعد في معدلات موجات الحرارة خلال الـ30 عاماً الماضية، مع زيادة في متوسط ​​درجة الحرارة بمقدار 0.53 درجة مئوية لكل عقد، وفقاً لمنظمة اليونيسف.

يؤدي ارتفاع الحرارة إلى مزيد من موجات الاحترار والجفاف، وهو ما يؤثر على التربة، ويمكن أن يُلحِق الضرر بالأساسات والبنية التحتية ومواد البناء، كما أن امتداد فترات الحر يزيد من احتمالية نشوب الحرائق الخطرة.

ويجب زيادة مقاومة التصميمات الإنشائية حتى تصمد في وجه موجات الحر، وهو ما يسعى إليه دليل الأمم المتحدة للمباني، عبر مجموعة من الطرق الفعالة التي يمكن تطبيقها في مصر، ومنها:

موقع البناء

يقترح الدليل بعض استراتيجيات البناء للتكيف مع موجات الحر، مثل بناء المنازل في اتجاه الرياح؛ حيث يتم تصميم الجدران الخارجية بطريقة تسمح بدخول نسائم الهواء داخل المنازل أو "تبريدها" بشكل طبيعي.

ومن أجل تخفيف موجات الحر، يجب التركيز على اختيار المكان والعناصر المحيطة به، مثل الأشجار التي توجه الرياح؛ ما يساعد على التهوية الطبيعية، أو المباني القريبة التي يمكن أن تحجب أشعة الشمس القوية.

مصر تُعَد من الدول التي تتأثر بقوة بالتغيرات المناخية ونتيجة الظواهر الجوية الشديدة ومنها موجات الحر حيث تم تسجيل تصاعد في معدلات موجات الحرارة خلال 30 عاماً مضت

كما يجب اعتماد المباني المتوسطة الارتفاع؛ لتقليل استهلاك الطاقة مع استغلال الإضاءة الطبيعية بشكل كبير؛ حتى لا يزيد الشعور بالحرارة.

تصميم وتخطيط المبنى

يمكن أن تساعد التصميمات الإنشائية في تقليل الحرارة داخل المباني، مثل اعتماد الغرف ذات الأسقف العالية للتهوية الجيدة.

وهناك استراتيجية يتم اعتمادها في بعض الدول الآسيوية حتى تتكيف المنازل مع كميات كبيرة من ضوء الشمس، وهي استخدام غرف التخزين والمرافق، مثل الحمامات كأنها "مناطق عازلة". وعند التصميم يفضل جعل هذه الأماكن في الجوانب الشرقية والغربية من المنزل، التي تتلقى أشعة الشمس المباشرة في الصباح وبعد الظهر؛ ما يحمي الغرف الرئيسية، مثل النوم والمعيشة، من موجات الحر.

ويجب أن تكون النوافذ والمساحات المفتوحة في الاتجاه المناسب للشمس والرياح؛ للحصول على أقصى قدر من الضوء مع تقليل اكتساب الحرارة، وتظليل كافة النوافذ التي تقع جهة الغرب؛ ما يقلل أشعة الشمس المباشرة، خاصةً وقت الذروة في الصيف.

وكذلك استخدام المواد العازلة والعاكسة للحرارة التي تقلل من الرطوبة مع المعالجة الخارجية للجدران بجانب اعتماد الأسقف والجدران والأسطح الخارجية ذات الألوان الفاتحة مثل الأبيض.

سطح البناء

وهو مساحة كبيرة مكشوفة، لكنه يمثل في العادة نقطة ضعف؛ حيث تتعامد عليه الشمس أغلب ساعات اليوم، ويسمح بنفاذ كمية كبيرة من الحرارة؛ ما يجبر قاطني الشقق الموجودة تحته مباشرةً على استخدام تكييف الهواء لساعات طويلة وزيادة استهلاك الطاقة والانبعاثات؛ ما يزيد الاحترار؛ ولذلك من المهم حماية السقف من خلال العزل المناسب والأسطح العاكسة مع طلائها بألوان فاتحة وزراعة النباتات المناسبة.

أهمية الأسطح الخضراء

تقدم الطبيعة حلولاً إضافية داخل المنزل أو في الساحات الخارجية للمباني، وهي حلول تقلل درجة الحرارة، وتسمح بتدفق الهواء والتهوية الطبيعية؛ وذلك عن طريق الأشجار، والنباتات التي تتيح متنفساً طبيعياً للمكان، ووسائل التظليل الخارجية، والمسطحات المائية.

ويحذر الدليل من تأثير "الجزر الحرارية الحضرية" التي تجعل المدن أكثر دفئاً من المناطق الريفية المحيطة؛ ما يُعرِّض سكان المدن لخطر كبير.

وينصح خبراء الأمم المتحدة باللجوء إلى الطبيعة التي توفر حلولاً قوية؛ حيث يمكن للمجتمعات إنشاء غابات حضرية ومساحات خضراء للحد من موجات الحر في المدن؛ حيث تعمل الأشجار والنباتات على تبريد البيئة المحيطة من خلال توفير الظل وإطلاق المياه عبر أوراقها فيما يعرف بعملية النتح.

كما ينصح الدليل باستخدام المداخن الشمسية، وهي وسيلة تستخدم الطاقة الشمسية لتحسين التهوية، وبالبُعد عن الهياكل الثقيلة الوزن من الخرسانة أو الحجر أو غيرهما من المواد الثقيلة التي تلتقط حرارة الشمس.

الجفاف.. المغرب العربي

وفقاً لمرصد الجفاف العالمي، تعاني منطقة المغرب العربي من نقص حاد في هطول الأمطار؛ ما يضر برطوبة التربة وتدفق الأنهار؛ فمنذ ديسمبر 2022، أثرت موجة دافئة طويلة على المنطقة المغاربية، واعتباراً من هذا العام أصبح الشتاء دافئاً وجافاً في معظم مناطق البحر الأبيض المتوسط؛ حيث ستؤثر حالة الجفاف على حياة الإنسان والغطاء النباتي.

موجة الجفاف تضرب المنطقة، ونتائجها السلبية تظهر بوضوح في تداعيات الأزمة التونسية، لكن خطر شح المياه لا يقف عند الكائنات الحية فقط، بل يحذر دليل المباني للأمم المتحدة من تأثير الجفاف بشكل مباشر على المباني.

هناك أنواع معينة من التربة تتعرَّض للانكماش بسبب الجفاف أو ما يُعرَف بهبوط التربة؛ حيث تنكمش التربة في المناخ الجاف، وفي فترات الجفاف الطويلة تمتص النباتات الماء والرطوبة من التربة؛ ما يُلحِق أضراراً كبيرة بالمباني والبنية التحتية.

منطقة المغرب العربي تعاني من نقص حاد في هطول الأمطار ما يضر برطوبة التربة وتدفق الأنهار ما تسبب في جفاف يؤثر على الإنسان والغطاء النباتي

علاوةً على ذلك، يمكن أن يُتلِف الجفاف والحرارة الشديدة موادَّ البناء، أو أن يتسبَّبا في تشقُّق بعض المواد وفقدان الرطوبة.

الجفاف أيضاً يمكن أن يزيد من مخاطر الحريق، مثل حرائق الغابات في الجزائر، وهي مشكلة تفاقمت من جراء موجات الحر وتغيُّر المناخ.

ولذلك ينصح الخبراء ببعض المقترحات لتطبيقها داخل المنازل الموجودة بالمناطق المُعرَّضة لمخاطر الجفاف:

– استخدام مواد بناء مُقاوِمة للحريق مع الاهتمام بتركيب أنظمة إطفاء حريق بالمباني في المناطق العالية الخطورة.

– توفير أساليب للحد من مخاطر الحريق بسبب الغطاء النباتي الجاف وإبقاؤه تحت السيطرة.

– ومن أجل الصمود في وجه الجفاف، يجب استغلال أسطح المباني، وتزويدها بأنظمة لتجميع مياه الأمطار وتخزينها داخل خزانات يُعَاد تدويرها أثناء فترات الجفاف؛ وبذلك نستفيد من مياه الأمطار في الشرب والزراعة.

– ومن الحلول القائمة على الطبيعة لمعالجة حالات الجفاف، زراعة الأشجار أو غيرها من النباتات في المساحات الخارجية، مع الاعتماد على الأنواع ذات الاستهلاك المنخفض للمياه، ووجود نظام ري فعَّال؛ حيث تعمل جذور النباتات على امتصاص الأمطار وإعادة تغذية المياه الجوفية في باطن الأرض باعتبار ذلك وسيلةً لمقاومة الجفاف.