قد لا يعرف أغلب البشر كيف يبدو ضوء القمر، هم لم يشاهدوه حقا بسبب الأضواء الصناعية التي تحاصرهم كل ليلة، ربما حان الوقت للمطالبة بـ"الحق في الظلام"، ووقف التلوث الضوئي.. فماذا يعني ذلك؟
"نيليش ديزاي" واحد من أبناء مدينة مومباي الهندية ظل يشكو إلى السلطات في عام 2018 من كمية الأضواء التي تصل إلى شقته الموجودة في الطابق السابع، وتحرمه من النوم، قبل أن يتقدم بطلب غريب متمثلا بـ"حقه في الظلام"، ليصبح أحد النشطاء الداعين لتقليل التلوث الناتج عن الآثار السلبية للأضواء الصناعية المنتشرة في العالم.
لا يحظى التلوث الضوئي بالشهرة نفسها التي تحيط بباقي أنواع التلوث المهدِدة للبيئة، رغم وجوده حولنا في كل مكان على غرار "إضاءة الشوارع" و"لوحات الإعلانات" و"إنارة المنازل والمحال".
الأضواء الصناعية والتغير المناخي
منذ اختراع المصابيح في القرن التاسع عشر، بات الباب مفتوحًا أمام عصر جديد من الأنشطة البشرية التي لا ترتبط بضوء النهار، لكن التكلفة البيئية والصحية لكل هذه الأضواء المحيطة بالبشر لم تكن في الحسبان.
وبلغة الأرقام، يمثل إجمالي الطاقة الكهربية المستخدمة بشريًا للإضاءة نحو 15% من حجم الطاقة التي يستهلكها العالم، وتساهم بـ5% من انبعاثات غازات الدفيئة، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة.
ووفقا للجمعية الدولية للسماء المظلمة "IDA" – منظمة غير ربحية مقرها الولايات المتحدة - يقدر العلماء حجم انبعاثات الضوء الصناعي حول العالم بقرابة 250 ألف جيجا وات/ ساعة من الطاقة، ما يؤدي في النهاية إلى تفاقم أزمة التغيرات المناخية.
لكن أزمة أخرى تلوح في الأفق، فحجم الاستفادة من كل هذه الإضاءة لا تتساوى مع تكلفتها، فـ50% من الإضاءة الخارجية التي تنير الشوارع هي إضاءة مهدرة، وينفق العالم 50 مليار دولار سنويا لإنتاج ضوء يتسرب إلى الفضاء.
إنارة صديقة للبيئة
على مدار سنوات، ظهرت وسائل إضاءة أقل ضررا على البيئة، أهمها مصابيح "HID" التي توفر من 70% إلى 90% من الطاقة التي تتطلبها المصابيح المتوهجة التقليدية، كما انتشرت مصابيح "LID" الموفرة بدورها أيضًا لـ75% من الطاقة.
رغم ذلك، تشير تقارير إلى الأثر العكسي الذي أحدثه انتشار مصابيح LID بأسعار أقل، ما أدى إلى استخدام عدد أكبر منها، وبالتالي لم تختف أزمة الطاقة تماما، بحسب تقرير "IDA".
وهناك طرق أخرى صديقة للبيئة لكنها أقل انتشارا، مثل المصابيح التي تعمل بالطاقة الشمسية، والتي تعتمد على تركيب ألواح فوق أسطح المباني.
وفي سبيل التوصل إلى طرق إضاءة أكثر ملائمة للمعايير البيئية، خرجت إلى النور أحدث دراسة علمية قام بها فريق بحثي في التشيك، والذي نجح في اكتشاف سر انبعاث الضوء من كائنات دقيقة تعيش في عمق المحيط بسبب إنزيم "لوسيفراز".
الدراسة التي شاركت بها جامعة برنو للتكنولوجيا، ومركز أبحاث المركبات البيئية السامة "RECETOX" توصلت إلى كيفية عمل الإنزيم الذي يتخلص من الطاقة الزائدة من التفاعلات الكيميائية التي يحدثها عبر انبعاث الضوء.
الباحث مارتن ماريك، أحد المشاركين في الدراسة، أكد أن هذا الاكتشاف يمهد الطريق لتطوير نظام حي يمكن استخدامه في تطبيقات الإضاءة، إذ يمكن لـ"لوسيفراز" تحويل الطاقة إلى إضاءة بطريقة أكثر فاعلية.
انخفضت زيارات الملقحات الليلية إلى الزهور بنسبة 62% بسبب تشتيت الضوء مقارنة بالمناطق المظلمة، ما أدى إلى انخفاض إنتاج الفاكهة بنسبة 13%
التلوث الضوئي والحياة البرية
لا ينهي توفير الطاقة الأضرار التي خلفها الضوء الصناعي، فانهيار النظام التقليدي لليل والنهار الذي استمر مئات الملايين من السنوات له آثار سلبية على أنواع مختلفة من الكائنات الحية مثل الطيور والحشرات والنباتات، ومن ثم الأمن الغذائي للإنسان.
وأمام ذلك، نبهت دراسة سويسرية، نشرتها دورية Nature، إلى تهديد هذا النوع من الضوء خلال فترة الليل عمليات تلقيح النباتات؛ إذ انخفضت زيارات الملقحات الليلية إلى الزهور بنسبة 62% بسبب تشتيت الضوء مقارنة بالمناطق المظلمة، ما أدى إلى انخفاض إنتاج الفاكهة بنسبة 13% خلال تجربة الدراسة.
دراسة أخرى، كشفت عن مساهمة الأضواء الصناعية في تراجع أعداد الحشرات على كوكب الأرض؛ إذ تؤثر على سلوكها بطرق مختلفة فتصعب مهمة العثور على الغذاء خلال فترة الليل، وتؤثر على التزاوج بالنسبة للحشرات التي تعتمد على خاصية التلألؤ البيولوجي، كما تتسبب في موتها في كثير من الأحيان بسبب انجذابها إلى المصابيح، وفقا لموقع "Science Direct".
الظلام يمثل عنصرا مهمًا في الحفاظ على صحة الإنسان، فهو المسؤول عن إفراز هرمون "الميلاتونين"، الذي يعمل على تنظيم دورة النوم
لماذا يحتاج الإنسان للظلام؟
الظلام يمثل عنصرا مهمًا في الحفاظ على صحة الإنسان، فهو المسؤول عن إفراز هرمون "الميلاتونين"، الذي يعمل على تنظيم دورة النوم، كما أثبت العلماء قدرته على مواجهة بعض الأمراض وعلى رأسها مرض السرطان، وقد ربطت عدة دراسات زيادة خطر الإصابة بسرطان الثدي بالعمل خلال فترة الليل.
ليس هذا فحسب؛ بل إن التعرض لكميات أكبر من الإنارة خلال الليل وانخفاض مستوى "الميلاتونين"، يؤدي إلى الإصابة بالإرهاق والصداع والشعور بالقلق والضغط النفسي وزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب، وجميعها كشفتها دراسة أجرتها جامعة هارفارد الأمريكية.
الدراسة أزاحت الستار أيضًا عن صلة محتملة للضوء الأزرق ليلا بمرض السكري وربما السمنة، تزامنا مع انخفاض مستويات هرمون اللبتين، وهو هرمون يجعل الناس يشعرون بالشبع بعد تناول الوجبة.
وفي النهاية فإن الآثار الصحية لكل ما سبق، تساهم بطريقة غير مباشرة في تفاقم أزمة التغير المناخي؛ إذ تمثل انبعاثات القطاع الصحي حول العالم بـ4.6% من انبعاثات غازات الدفيئة، وفقًا لمؤسسة "Health Affairs".
نماذج ناجحة
منذ عام 2001، اعترفت الجمعية الدولية للسماء المظلمة بأكثر من 130 موقعا حول العالم يطبق سياسات مسؤولة للإنارة سعيا للحفاظ على بيئة الليل.
وبالفعل، نجحت 38 مدينة ومنطقة حول العالم في الحصول على اعتماد الجمعية، 25 منها في الولايات المتحدة، بينما تتوزع البقية على كندا وألمانيا وكرواتيا واسكتلندا واليابان والدنمارك وجزر القنال الإنجليزي.
أما بلدية جيلسا الكرواتية فباتت الأولى في جنوب قارة أوروبا التي تحصل على هذا الاعتراف بعدما نجحت في تحويل أكثر من 80% من الإضاءة إلى إضاءة محجوبة لا تتركز سوى بزاوية معينة.
وأخيرًا جزيرة نيوي الواقعة في المحيط الهادي، والتي لا يسكنها سوى 1600 نسمة فقط، حيث كانت أولى المناطق التي تحصل على لقب الدولة ذات السماء المظلمة في 2020، بعدما نجحت في التخلص من المصابيح التقليدية بمصابيح LED أكثر خفوتا.