المزارع المهجورة.. من هنا تبدأ رحلة الحفاظ على التنوع البيولوجي


سلمى عرفة
الجمعة 29 ديسمبر 2023 | 04:13 مساءً

هل زرتَ يوماً منطقة مهجورة تخلَّى عنها سكانها، ولاحظت الكائنات الحية المختلفة التي قررت اتخاذ المنطقة موطناً لها؟ هذه التغيرات الاجتماعية بدأ العلماء يلتفتون إليها، ويشيرون إلى ضرورة استغلالها في مواجهة التدهور البيئي الذي تعانيه الأرض.

ورصد تقرير نشره موقع "Yale Environment 360" التابع لجامعة ييل الأمريكية، كيف أدت الأحداث التاريخية التي شهدتها بعض المناطق إلى تغيرات بيئية يمكن الاستفادة منها.

لم تكن جيرجانا داسكالوفا بلغت عامها الأول حين انتقلت للعيش بصحبة جَدَّيها في إحدى قرى بلغاريا الواقعة جنوب شرق أوروبا، بعدما اتخذ والداها قراراً بالانتقال إلى المدينة إثر إغلاق المزرعة التعاونية التي كانت تُدِيرها الحكومة في المنطقة.

تزامنت تلك الأحداث مع سقوط "الستار الحديدي" في ثمانينيات القرن الماضي، وهو تعبير يصف حالة الانفصال بين بلدان شرق أوروبا التي خضعت للنفوذ السوفييتي، وغربها في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

عاشت "داسكالوفا" طفولتها في الريف الذي كان يُفرَّغ من سكانه، وبدأت أراضيه تتحول إلى مناطق مهجورة، حتى سافرت هي الأخرى في نهاية المطاف إلى الخارج لتبدأ مسيرتها الأكاديمية في علم البيئة، لكنها لم تَنْسَ يوماً قريتها "تيوركمين" التي شهدت تحولات اجتماعية كان لها أثرها على البيئة.

عودة الطبيعة

تقول الباحثة جيرجانا داسكالوفا: "رأيت القرية تتغيَّر على مدى 3 عقود؛ فبينما تخلَّى السكان عن منازلهم، امتلأت الحدائق بالغطاء النباتي، وبدأت أعداد الطيور من بينها طائر الذيال والهدهد تفوق أعداد البشر.. وكل هذه التغيرات كانت مصدر إلهام لي لدراسة البيئة".

وفي الوقت الذي يُفضِّل فيه غالبية علماء البيئة دراسة المناطق الأصلية، باتت "داسكالوفا" واحدة من مجموعة باحثين قرَّروا تركيز اهتمامهم على المناطق التي تخلَّى عنها البشر، وتعتقد أن تلك المناطق التي تقع خارج دائرة الاهتمام قد تُمكِّننا من تحقيق كل من الأهداف التي تتعلَّق بالتنوع البيولوجي والمناخ معاً.

الباحثة في المعهد الدولي لتحليل النظم التطبيقية في النمسا، تَصِف هجر الأراضي بأنه "عامل تغيير صامت" يؤثر على التنوع البيولوجي، لكن لا يزال هناك الكثير مما لا نعرفه عن تأثير تلك الظاهرة على الأرض، وهو ما تحاول العمل عليه من خلال دراسة الأمر على المستويين المحلي والعالمي.

بحسب التقرير، شهدت بلغاريا خلال الـ35 عاماً الماضية، أسرع معدل لتراجع عدد السكان في العالم بنسبة وصلت إلى 28%، وظهر أثر النزوح واضحاً في الريف الذي اختارت منه "داسكالوفا" 30 قرية لدراستها؛ ففي الوقت الذي يتركز فيه الاهتمام على فكرة احتلال البشر المناطق الطبيعية، وهو أمر مستمر في بعض المواقع، فإن هناك مناطق أخرى تسير في الاتجاه المعاكس.

مليار فدان

في مايو الماضي، نشرت دورية "Science" دراسة خلصت إلى أن مساحة الأراضي الزراعية المهجورة في العالم تبلغ نحو مليار فدان؛ أي ما يعادل نصف مساحة أستراليا؛ ما يعني أن كل هذه المساحات جاهزة لإعادتها إلى حالتها الأصلية، وهو ما يمثل فرصة ضخمة لتعزيز التنوع البيولوجي، وامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.

وهناك أبحاث أخرى أشارت إلى الغابات المتدهورة التي جرى قطعها في الماضي، وظلَّت على تلك الحالة دون الخضوع للحماية أو عودة الحياة إليها مجدداً، ويمكن استغلالها لتحقيق الأهداف نفسها.

وبحسب دراسة نشرتها دورية Conservation Biology، تعادل مساحة الغابات المتدهورة حول العالم مساحة دولة روسيا، لكنها تأتي ضمن الأماكن التي يتجاهلها صناع القرار عند النظر في محاولات استعادة النظم البيئية وطرق تخزين الكربون.

تقرير جامعة "ييل" الأمريكية، أشار إلى أن الطريقة التي يجري بها عمليات تصنيف الأراضي بين غابات بكر وغيرها من المناطق الحضرية أو المحمية أو الزراعية تُفِيد في بيان الإمكانات البيئية التي يمكننا الاستفادة بها من خلالها.

تراجع المساحات المزروعة

ورغم زيادتها في العديد من البلدان النامية، فإن العالم يشهد تراجعاً في إجمالي مساحة الأراضي المزروعة؛ فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، شهدت تراجعاً بمقدار السدس خلال العقود الثلاثة الماضية، وشهدت أوروبا اتجاهاً مشابهاً.

وعلى غير المتوقع، فإن التلوث ساهم في بعض الأحيان في إحداث هذا التغيير؛ فمئات الأميال المربعة من الأراضي الزراعية التي كانت تحيط بالمفاعلات النووية في أوكرانيا واليابان، باتت الآن خارج الخدمة، وتشهد عودة مجموعة كبيرة من الكائنات الحية كالدببة والذئاب.

مخاوف علمية

لكن هناك أسئلةً تُثار حول نوع الطبيعة التي تعود إليها تلك الأراضي التي تخلى عنها سكانها، وإذا ما كان يمكننا من خلال رسم الخرائط، والدراسة، والإدارة، وإخضاعها للحماية، زيادة إمكاناتها في الوصول إلى الأهداف العالمية المتعلقة بتخفيف التغير المناخي، واستعادة الأنواع المختلفة وموائلها.

بحسب التقرير، هناك فريق آخر يخشى من نتائج الأمر؛ لأن تلك المساحات قد تجلب العديد من الأنواع الغازية غير المرغوبة، وهو ما يجب العمل على التحكم به، علاوة على مجموعة من التحديات الأخرى التي تشمل تآكل التربة، وزيادة خطر حرائق الغابات.

وهذا هو السبب المحتمل لزيادة معدلات حرائق الغابات في السهول الروسية، وما يحيط بها من بلدان خلال العقود الماضية.

وكشفت دراسة لجامعة مونستر الألمانية 2020، عن زيادة معدلات الحرائق فيما يُقدَّر بـ770 ألف ميل مربع في المناطق الواقعة شمال كازاخستان وجنوب روسيا، وتركزت في المناطق التي تراكمت بها الكتلة الحيوية العشبية منذ تحولت مزارع الماشية إلى مناطق مهجورة.