قصة "A-68".. عندما تعترض الجبال الجليدية طريق الاستقرار البيئي


سلمى عرفة
الاثنين 11 نوفمبر 2024 | 11:00 مساءً

في أحد أيام شهر فبراير عام 2021، وصلت السفينة RRS James Cook إلى وجهتها في جنوب المحيط الأطلسي، قرب جزيرة جورجيا الجنوبية، حيث وجد طاقمها جبلاً جليدياً، هذا الجبل لم يتعثر به الفريق كما حدث مع ركاب "تيتانيك"، بل تعقبوا حركته، ورصدوا أثره على البيئة على المناطق التي يصل إليها.

لكن القصة التي أثارت اهتمام العلماء لم تبدأ في تلك المنطقة، بل بدأت جنوباً عندما حدث صدع عميق في لوح "لارسن C" الجليدي، غرب شبه القارة القطبية الجنوبية، وأدى في أواخر عام 2016، إلى تكون جبل جليدي سيُطلق عليه اسم "A-68"، والذي تخطى حجمه ما يعادل ضعف حجم دولة لوكسمبورج، وغطت مساحته ما يقرب من 6 آلاف كيلو متراُ مربعاً.

لاحقاً، تغير اسم الجبل الجليدي ليصبح "A-68a"، بعد انفصال جزءاً منه، لكن خلال عمره القصير الذي يقل عن 5 سنوات، سيخوض الجبل رحلة طويلة يُحدث فيها العديد من التغييرات- بعضها إيجابي والآخر سلبي- في بيئات المناطق التي يتحرك إليها، لا سيما في عصر الاحتباس الحراري، وارتفاع درجات الحرارة الناتجة عنه.

الجبال الجليدية تبدأ من مجرد صدع- مصدر الصورة: British Antarctic Surveyالجبال الجليدية تبدأ من مجرد صدع- مصدر الصورة: British Antarctic Survey

نموذج للمستقبل

في قصة نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، يصف الكاتب مايكال مارشال، هذا الجبل هو نموذج مصغر لما يمكن توقعه بشأن ذوبان القارة القطبية الجنوبية بفعل ظاهرة التغيرات المناخية.

رغم بقائه في المنطقة التي تكون بها لفترات طويلة، إلا أنه بحلول صيف عام 2019، كان الجبل قد تحرك بالفعل شمالاً لمسافة تزيد عن 200 كيلو متراً على طول ساحل شبه الجزيرة، ثم تسارع هذا المعدل حتى وصل إلى منطقة يُطلق عليها العلماء مضيق الجبال الجليدية، بفعل ارتفاع درجة الحرارة.

خطر بيئي

أحد علماء البعثة هو جيرينت تارلينج، عالم البيئة القطبية في هيئة المسح البريطانية للقطب الجنوبي، والذي خشي من الخطر الجسيم الذي يشكله الجبل الجليدي، لأن التيارات ستحمله إلى جزيرة جورجيا الجنوبية، التي تقع في قلب منطقة بحرية محمية تمتد على مساحة تتخطى مليون كيلو متراً، ما يهدد استقرار النظام البيئي فيها.

في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية، يشير "تارلينج" إلى الثراء الذي تتميز به تلك المنطقة بسبب توافر العناصر الغذائية، ما يسمح للعوالق التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي بالازدهار في المياه المحيطة بها، وهو ما يعزز الكائنات ذات الأدوار اللاحقة في السلسلة الغذائية، وعلى رأسها قشريات الكريل، كما تعد المنطقة موطناً لمستعمرات تكاثر العديد من الأنواع المهددة مثل طيور القطرس، والبطريق الملكي.

هناك عامل آخر ساهم في تصاعد مخاوف العلماء، وهي احتواء "A-68a"، شأنه ككل الجبال الجليدية التي تتكون بالأساس من الثلوج، على كميات كبيرة من المياه العذبة، ومن ثم سيغير من طبيعة المياه المحيطة بالجزيرة.

ولم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها المنطقة من تهديد كهذا، ففي عام 2004، استقر الجبل الجليدي "A-38 B" قبالة الجزيرة لأشهر طويلة.

ويمنع وجود الجبال الجليدية في بعض الأحيان، وصول الكائنات الموجودة مثل البطاريق التي تواجه بالفعل تحديات أخرى، من التنقل بين المياه والجليد.

يلفت العالم البريطاني إلى وجود توقعات بتكون المزيد من الجبال الجليدية الضخمة، والحاجة إلى فهمها، بسبب الدور الذي تقوم به التغيرات المناخية في تسريع معدلات الذوبان في القارة القطبية الجنوبية.

جانب إيجابي

لكن الصورة كذلك ليست بتلك القتامة، فهناك جانب إيجابي من تكون تلك الجبال التي تخلق أنظمة بيئية فريدة، ولو كان وجودها مؤقتاً، وهو ما فعله "A-68"، ففي المياه السطحية المحيطة به، رصد الباحثون مستويات مرتفعة من النترات والفوسفات، وازدهرت الطحالب حوله، وحول الكتل المنفصلة عنه، ما أدى لجذب العوالق الحيوانية.

وتوقع العلماء العثور على حيوانات أكبر حجماً حوله، لو كانت السفينة استمرت لفترة أطول في المنطقة.

وخلال مراحل ذوبانه، أطلق الجبل الجليدي كميات هائلة من المياه العذبة التي شكلت ضغطاً إضافياً على طبقات المياه المالحة ودفعتها لأسفل، ودفعت معها المزيد من كميات المواد العضوية، ما يعني دفع مزيد من كميات الكربون نحو القاع، وهو ما يساهم ولو بنسبة ضئيلة في تخفيف كميات غازات الدفيئة الموجودة في الغلاف الجوي.

نهاية الرحلة

في ديسمبر عام 2020، بدأت المرحلة الحاسمة من انهيار "A68a" الذي كان قد اقترب للغاية من الجزيرة، إذ بدأ ينقسم إلى عدداً من الأجزاء، بفعل تيارات المحيط القوية، ثم حدث انقسام جديد في أواخر يناير عام 2021، قبيل وصول الفريق.

مصدر الصورة: ناسامصدر الصورة: ناسا

كلوديا سينيدس الخبيرة في معهد وودز هول الأمريكي لعلوم المحيطات أشارت، في تصريح نقلته بي بي سي، إلى مدى خطورة أخذ عينات من المياه بالقرب من الجبال الجليدية، ولذلك استخدم الباحثون طائرات روبوتية يمكنها التحرك بين قطع الجليد الضخمة، كما كان على السفينة البقاء على مسافة آمنة منه.

وفي منتصف أبريل 2021، لم يكن يتبق منه سوى أجزاء صغيرة، وخلال رحلته التي امتدت لثلاثة سنوات ونصف السنة، فقد "A-68" ما يزيد عن 800 مليار طن من الجليد، وبين نهاية عام 2020 وعام 2021، تسرب منه أكثر من 150 مليار طن من المياه العذبة إلى مياه المحيط، وهو ما يعادل أكثر مساحة 60 مليون حمام سباحة أوليمبي.

ترى "سينيدس" إن جبل جليدي واحد قد لا يُحدث فارقاً، لكن وصول كميات كبيرة من المياه العذبة إلى المحيط قد يسبب خللاً في تيارات مياهه.