بجسده الضخم، وحركاته الرشيقة بين سطح المياه وأعماقها، دائماً ما يلفت حوت الأوركا، أو الحوت القاتل، الأنظار في المعارك التي يخوضها ضد الكائنات البحرية الأخرى، والتي تثير اهتمام العلماء في مختلف مناطق العالم.
لكن الأنشطة التي يمارسها البشر منذ عقود طويلة دون أن يضعوا في حسبانهم مدى تأثيرها على الكائنات الأخرى، قد تغير شكل تلك المواجهات، وتغير كذلك تنظيم الأدوار بين الحيتان بعضها وبعض في ساحة المعركة.
مواجهة فردية
أحد التغيرات المثيرة للاهتمام وقعت قبالة سواحل جنوب إفريقيا، عندما سجل العلماء في يونيو من عام 2023، مشهداً غير مسبوق، أحكم خلاله حوت أوركا قبضته على أحد القروش البيضاء الكبيرة، حتى نجح في انتزاع أحشائه، وإنهاء المعركة خلال دقيقتين فحسب.
ذلك الحوت القاتل الذي يُطلِق عليه الباحثون اسم "ستاربورد"، نجح في قتل فريسته التي يمتد طولها إلى 2.5 متر، وأنهى المعركة خلال تلك المدة القياسية على بُعد 400 متر فحسب شرق عاصمة جنوب إفريقيا "كيب تاون".
هدف "ستاربورد" كان الوصول إلى كبد القرش الغنية بالدهون، التي تمثل ثلث كتلة جسده، والتي ينتزعها الحيتان، قبل أن يتخلصوا من بقية جثمان الفريسة، وهو ما يُسمى بأسلوب التغذية الانتقائي الشهير بين العديد من الكائنات الآكلة للحوم الأخرى، مثل الذئاب والدببة البنية.
المشهد لم ينتهِ عند تلك اللحظة؛ فعلى بعد 100 متر من تلك المعركة، ظهر حوت آخر، وهو رفيقه "بورت"، لكن المفاجأة أنه لم يشترك فيها؛ ما دفع العلماء إلى محاولة فهم منهج الصيد الذي تشهده المنطقة.
ذلك الثنائي معروف جيداً لدى علماء الدراسة التي أوردت ذلك المشهد، باستهداف القروش البيضاء الكبيرة منذ عام 2015، وفقاً لتقدير الباحثين، واعتادا التحرك لمسافات طويلة وصولاً إلى ساحل ناميبيا، لكن لم يجرِ التقاط صور لأي من تلك المواجهات حتى عام 2022.
وصول الثنائي "ستاربورد" و"بورت" إلى المنطقة قد يكون في حد ذاته مؤشراً على مدى تأثير الأنشطة البشرية.
رغم غياب أدلة حاسمة على وجود عوامل بعينها، ترى أليسون تاونر الباحثة في جامعة رودس بجنوب إفريقيا أن وصول الثنائي إلى المنطقة، يمكن ربطه بتغيرات أكبر يتعرض لها النظام البيئي، بفعل الضغوط التي تتعرض لها المحيطات من جراء الأنشطة البشرية، كالتغيرات المناخية، والصيد الصناعي الذي يتضمن بواخر ضخمة.
ترى " تاونر"، التي درست القروش البيضاء لمدة 17 عاماً، أن ما فعله "ستاربورد" يتناقض مع سمة شهيرة بين ذلك النوع من الحيتان، وهو التعاون في الصيد، وحصار الكائنات المفترسة الضخمة الحجم، واستخدام ذكائها وقواها المشتركة للهجوم عليها، حسبما نقلت شبكة "سي إن إن".
ولم تكن تلك المرة هي الأولى التي تتمكن فيها حيتان الأوركا، التي تتمتع بدرجة مرتفعة، من الذكاء من اصطياد كائنات ضخمة بمفردها، لكنها المرة الأولى التي تحدث تلك المرة مع أحد أكبر مفترسات العالم: القرش الأبيض الكبير.
وفقاً للدراسة التي نشرتها دورية The African Journal of Marine Science، تراوحت أعداد فرق حيتان الأوركا التي نفذت الهجمات السابقة على القروش البيضاء بين حوتين و6 حيتان، وخلال مدة قد تصل إلى ساعتين.
الروابط الاجتماعية بين كائنات "الأوركا" تضعف؛ لأنه لا يمكن التعامل كفريق إذا كان كافة أفراد ذلك الفريق جائعين ويبحثون عن الطعام.
مهارة أم ضغوط متزايدة؟
يصف الدكتور بريمو ميكاريلي عالم الأحياء البحرية في معهد دراسات القروش بإيطاليا، مشهد "ستاربورد" وهو يحمل كبد القرش الأبيض بأنه " لا ينسى"، لكن مخاوف العالم لا تقتصر على الفزع الطبيعي من الكائنات المفترسة، بل تشمل مخاوفه بشأن التوازن البيئي البحري.
وتشير الدراسة إلى أن الرشاقة التي حدث بها الهجوم، والتي تعكس مهارة "ستاربورد" بصفته كائناً بحرياً مفترساً، قد تكون في الحقيقة استجابةً للضغط الذي تعرض له نتيجة الصيد بالقرب من الشاطئ في المناطق التي يوجد فيها البشر بكثرة.
هناك خطر آخر، وهو أن الوجهة الجديدة التي باتت القروش البيضاء الكبيرة تتوجه إليها هرباً من حيتان الأوركا الموجودة في المنطقة، لا زالت غير معلومة بالنسبة إلى العلماء، وسط تقديرات بأن انتقالها إلى مكان جديد سيؤدي إلى مواجهتها بواخر الصيد التجارية.
الجوع والتعاون لا يلتقيان
مدى تأثير الأنشطة البشرية على العلاقات الاجتماعية بين حيتان الأوركا بعضها وبعض، ظهر كذلك في مناطق أخرى من العالم، ولأسباب تدور جميعها حول أمر واحد، وهو البحث عن الطعام.
على ساحل العاصمة الأمريكية واشنطن، على سبيل المثال، أثَّر الصيد الجائر لسمك السلمون على العلاقات الاجتماعية التي تعزز بقاء حيتان الأوركا معاً، وهو أمر عثر العلماء كذلك على تفسير له.
في تصريح لموقع Live Science، يقول مايكل فايس أحد مديري مركز أبحاث الحيتان في ولاية واشنطن الأمريكية إن الروابط الاجتماعية بين كائنات "الأوركا" تضعف؛ لأنه لا يمكن التعامل كفريق إذا كان كافة أفراد ذلك الفريق جائعين ويبحثون عن الطعام.
لكن هناك مفارقة يشير إليها "فايس"، وهي أن تراجع أعداد مجموعات الأوركا قد تسمح لها بفرصة أكبر ليتعلم بعضها من بعض، فتقدر على التكيف مع البيئة المحيطة التي تتغير بسرعة؛ فهل هذا ما حدث بين "ستاربورد" ورفيقه قبل أن يتمكن الأول من المواجهة وحيداً؟ سؤال لا نعرف إجابته حتى الآن.