أطباق شهية احتفظت بها جميع موائد العالم، ربما اختلف مذاقها لكن مكوناتها الرئيسية تكاد تكون مشتركة، لكن في ظل الارتفاع الجنوني لدرجات الحرارة حول العالم، وتعرض أجزاء شاسعة منه لموجات الطقس المتطرف، تتأثر المحاصيل الزراعية التي ترسم ملامح هذه الموائد.
الطماطم التي تدخل في تصنيع العديد من المنتجات تهددها كذلك التغيرات المناخية، وسط توقعات بانخفاض الإنتاج العالمي 6% بحلول 2050، قبل أن يصل الفارق إلى 50% بين عامي 2050 و2100، وفقاً لأسوأ السيناريوهات.
الصحفية آريان بيكر المتخصصة في شؤون المناخ دعت القراء، في تقرير نشرته مجلة "التايم" الأمريكية، إلى الحفاظ على "الكاتشب" الموجود لديهم؛ لأن الموجة القادمة من نقص الطعام غالباً ما ستشمل الصلصة الشهيرة، لتكون شديدة التأثير بعد أزمة رقائق الشيبسي والإقبال الشديد على شراء المسطردة خشية نفاذها خلال العام الماضي.
مناطق إنتاج الطماطم الرئيسية في العالم، التي تشمل أستراليا وإسبانيا ومنطقة الوادي الأوسط في ولاية كاليفورنيا مرت بما يعادل ثلاثة فصول صيفية ارتفعت فيها درجات الحرارة إلى مستويات قياسية؛ ما أدى إلى تراجع حاد في مخزون معجون الطماطم، وهو المكون الرئيسي في "الكاتشب"، وغيرها من مطيبات الطعام.
الجفاف المستمر في كاليفورنيا التي تساهم بـ25% من إنتاج الطماطم في العالم، و95% من منتجات الطماطم المعلبة في الولايات المتحدة، أدى إلى تراجع كميات المحصول لعام 2021 بنسبة تقترب من 5%، قبل أن يرتفع الفارق إلى 10% في 2022، مقارنة بالكميات المتوقعة، وفقاً لإحصائيات وزارة الزراعة الأمريكية.
أما معدلات الأمطار القياسية التي شهدها العام الجاري، فخففت من الجفاف، لكنها أدت إلى فيضان الحقول وتأجيل عملية الزراعة، ومن ثم تراجعت كميات المحصول.
ومن المرجح أن تلحق منتجات البقالة الأساسية بالطماطم؛ بسبب التغيرات المناخية التي تقودها الزيادة غير المسبوقة في انبعاثات الوقود الأحفوري، وأدت إلى دمار محاصيل متنوعة بداية من الذرة إلى زيت الكانولا.
تساهم كاليفورنيا بـ25% من إنتاج الطماطم في العالم و95% من منتجات الطماطم المعلبة بالولايات المتحدة لكن موجة جفاف مؤخراً أدت إلى تراجع كميات المحصول لعام 2021 بنسبة تقترب من 5%
لا يمكن التنبؤ بالطريقة التي ستمتد بها الآثار إلى سلسلة الإمداد؛ ما يؤدي إلى زيادة الأسعار، وحدوث عجز ليس في الفواكه والخضراوات التي تتسم بالحساسية تجاه أحوال الطقس فحسب، بل في المنتجات التي تبدو لنا غير قادمة من الطبيعة.
قد تنجح المحاصيل الأساسية في النهاية في التكيف مع المناخ الأكثر دفئاً، لكن عملية التطور هذه تحدث في فترة زمنية لا تتسق أبداً مع مطالب السوق، وإذا استمر الطلب على ما هو عليه فيما يخص الكاتشب وصوص الكوكتيل وصلصلة المارينرا المستخدمة في إعداد البيتزا، فسيكون على العلم التدخل وتسريع وتيرة الأمور.
ذبول الأزهار
تزدهر الطماطم في درجات الحرارة المرتفعة، لكنها كالبشر تحتاج إلى ليال لطيفة الطقس تستجم خلالها، خصوصاً في مرحلة الإزهار، وإذا ما استمرت الليالي الحارة لمدة تتجاوز بضعة أيام، كما بدأ يحدث في مناطق الإنتاج الرئيسية، فإن أزهارها الصفراء الهشة تبدأ في الذبول تدريجياً، وتذبل معها بعد عدة أسابيع آمال الحصول على ثمار حمراء غضة.
على عكس شركات الحبوب التي يمكنها تغيير الموردين عندما يلوح نقص الإنتاج المحلي في الأفق، فإن سلاسل إمداد الشركات المسؤولة عن المنتجات المعتمدة على الطماطم تعمل بنظام التكامل الرأسي؛ إذ يقومون بإمداد المزارعين بالبذور لزراعتها حسب المواصفات، ثم نقل المحاصيل لاحقاً إلى منشآت المعالجة القريبة، وهي مملوكة كذلك لشركات الإنتاج.
أغلب كميات الطماطم يجري معالجتها وتحويلها إلى معجون الطماطم، وهو المكون الذي يمكنه الصمود لمدة طويلة وتعتمد عليه الشركات لضمان استمرار عمليات الإنتاج عندما تكون المنتجات الطازجة غير متاحة، لكن بعد 3 سنوات من انخفاض المحصول، بدأت تلك الاحتياطات تنكمش.
العالم المختص في علم الأحياء التطوري وكبير علماء شركة "أفالو" التي تتخذ من ولاية نورث كارولينا مقراً لها ماريانو ألفاريز، يحذر من أن الوضع سيكون حرجاً هذا العام، وأن أي طرف يستخدم معجون الطماطم في المنتجات سيواجه تحدياً حال عدم الحصول على محصول سليم.
لطالما كانت تقلبات الطقس المفاجئة تحدياً في قطاع الزراعة، مثل موجة البرد التي تأتي متأخرة عن موعدها، لتجمد الفواكه التي لا تزال في بداية مرحلة النمو، أو مثل عاصفة تدمر القمح قبيل موعد الحصاد.
لكن التغيرات المناخية تقوض جزءاً من الافتراضات الأساسية التي نعتمد عليها في تحديد موقع زراعة المحاصيل وتوقيتها؛ فالأنهار القديمة بدأت تجف، وفترات الشتاء القارسة تراجعت وتيرتها؛ ما يعني أن الحشرات ستبقى على قيد الحياة وتتكاثر لعام جديد.
كما باتت الموجات الحارة تأتي مبكراً وتستمر لفترات أطول؛ ما سبب حالة من الفوضى في دورة نمو الفواكه. أما الأمطار فتهطل بغزارة وسرعة، لتطيح بالبذور التي جرى زراعتها مؤخراً قبل أن تحصل على فرصة لتمد جذورها.
ولم تعد المحاصيل الأساسية قادرة على الصمود، علاوة على المحاصيل الأخرى الكمالية التي ضممناها إلى قائمة الأساسيات، مثل الموز والقهوة والشوكولاتة وزيت الزيتون والكمأ، واليوم بات على مئات الملايين التكيف مع الحياة بدون المحاصيل التي تعطي للحياة قيمة، أو العمل على تكييفها مع المناخ المتغير، وهو ما يعمل عليه علماء النباتات مثل "ألفاريز" وغيره.
وفقاً لـ"ألفاريز"، فإن فكرة البحث عن مناطق أفضل للزراعة ليست متاحةً دائماً، كما يرى أن الخيار الوحيد للكثير من منتجي الطماطم هو تغيير طبيعة النبات نفسه بطريقة ما، وهو ما يحاول القيام به باستخدام التعلم الآلي للتوصل إلى تهجينات جديدة تتفوق في التكيف مع احترار الطقس.
"ألفاريز" هو واحد من العلماء العاملين في الزراعة الذين يستخدمون الابتكارات في الروبوتات و الكيمياء وتسلسل الجينوم والذكاء الاصطناعي لهندسة النباتات وإعدادها لمستقبل ذي مناخ متغير.
تجارب متنوعة
في السادس عشر من مايو الماضي، أطلقت شركة "Pairwise" الناشئة – ومقرها كذلك في ولاية نورث كارولينا – أول مكونات سلطة في السوق الأمريكية معدلة بتقنية CRISPR، وهي تقنية جديدة نسبياً للتعديل الجيني استخدمتها الشركة في التخلص من المرارة الموجودة في أوراق الخردل التي تحتوي على كميات كبيرة من العناصر الغذائية.
كما تعمل على تطوير ثمار كريز دون سيقان وتوت بلا بذور، وفي الوقت الذي يهدفون فيه إلى أن تكون الخضراوات والفواكه أفضل مذاقاً وأسهل في الأكل، فإنه يمكن استخدام التكنولوجيا كذلك مع الأغذية المقاومة للتغير المناخي.
علماء الزراعة في أستراليا استخدموا تقنية تسلسل الجينوم في تحديد السمات المقاومة للحرارة وتعزيزها، لإنتاج حبة فول غنية بالبروتين لا يمكنها النجاة فحسب في درجات حرارة تتجاوز 100 درجة فهرنهيت (نحو 38 درجة مئوية)، بل تزدهر خلالها.
ويسعى العلماء حالياً إلى الحصول على الموافقة بطرح أول فاكهة معدلة جينياً في أستراليا، وهي الموز الذي جرى تعديله ليواجه فطريات قاتلة تهدد الإنتاج العالمي، لتلحق بالولايات المتحدة التي سمحت ببيع عدة أطعمة معدلة مثل التفاح والأناناس الوردي والبابايا.
رؤية ألفاريز للتطور المدعم تعتمد على استراتيجية أكثر بساطة؛ فبدلاً من استخدام التعديل الجيني الذي يستهدف جينات بعينها، يستخدم فريقه نماذج التعلم الآلي للعثور على الصفات المرغوب بها، مثل تحمل الحرارة والجفاف في كل من النباتات المزروعة أو البرية، ثم يقترح النظام الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي نوع التهجين الذي يمكنه التوصل إلى النتيجة الأفضل بالنسبة إلى المذاق وسهولة الإنتاج والمقاومة.
على سبيل المثال، تتمتع الفراولة البرية بمقاومة أكبر للجفاف والحرارة لكنها أصغر حجماً وسهل إتلافها؛ ما يصعب عمليات شحنها مقارنة بالفراولة الضخمة ذات اللون الأحمر الداكن المتاحة في غالبية المتاجر.
يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد أي السلالات من الفراولة البرية يمكن تهجينها بالسلالات التقليدية للحصول على ناتج أكبر حجماً، وأفضل مذاقاً وأكثر تكيفاً مع المناخ.
يسعى العلماء حالياً إلى الحصول على الموافقة بطرح أول فاكهة موز معدلة جينياً في أستراليا بعد تعديلها ليواجه فطريات قاتلة تهدد الإنتاج العالمي
عمليات التهجين التي ينفذها خبراء الزراعة بدأت منذ قرون، وهي الطريقة التي حصلنا بها في البداية على الفراولة المستأنسة، لكن الذكاء الاصطناعي يمكنه تخطي مرحلة التجربة والخطأ، ويسرع من وتيرة الأمر؛ فبمجرد أن يجري تحديد التهجين المحتمل يتوجه العلماء إلى الصوبة الزراعية ويبدؤون تجربتها، من خلال تسميد النباتات يدوياً، وزراعة البذور الناتجة ثم انتظار النتيجة.
وعلاوة على الفراولة والطماطم المقاومة للحرارة، ينمو داخل صوبة شركة "أفالو" أرز مقاوم للجفاف، وبروكلي ذو أوراق أكثر نعومة وأفضل مذاقاً بهدف تقليل نفايات الطعام.
عامل الوقت
الجزء الأصعب في الأمر هو الانتظار؛ ففي الوقت الذي يمكن للحاسبات فيه تسريع الاختيار، فإن عمليات نمو النباتات لا تزال تخضع للجدول الزمني الطبيعي.
يقول "ألفاريز" إنه لا يمكن إجبار أزهار النباتات أن تسير في دورة النمو بطريقة أسرع، لكن أفضل ما يمكن فعله خلال عامين هو إنتاج أنواع جديدة، بدلاً من الفترة التقليدية التي تتراوح بين 7 و10 سنوات.
ورغم قدرة الحاسبات على تسريع عملية التطور، فإنها لا تكفي لإنقاذ الكاتشب استعداداً لموسم الشواء بالصيف، أو لصوص الطماطم المستخدم في إعداد المكرونة وكرات اللحم في الشتاء المقبل.
ويختتم "ألفاريز" بقوله: "إذا تمكن الناس من الانتظار لبضع سنوات، فهناك فرصة للوصول إلى ناتج أكثر مرونة بكثير أمام أزمة المناخ، ولا بد أن نأمل في هطول أمطار طيبة، وقدوم فصول صيفية لطيفة الأجواء؛ ليس من أجل الحفاظ على الكاتشب فحسب، بل من أجل كافة المطيبات التي نستخدمها".