من شرق لبنان، وبالتحديد شمال منطقة سهل البقاع، ينبع نهر "الليطاني" الذي يشق طريقه لمسافة طويلة تمتد حتى 170 كم، ليصل إلى وجهته النهائية؛ حيث يصب في مياه البحر المتوسط.
نهر "الليطاني" الذي يمتد حوضه على مساحة تزيد عن ألفي كم، وكان يُنظر إليه باعتباره أحد عوامل التنمية في لبنان، عانى طويلاً من ارتفاع مستوى التلوث، وهو ما تعانيه أيضاً بحيرة القرعون التي أنشئت معه في وقت متزامن نهاية خمسينيات القرن الماضي.
ماذا يعني التلوث بالمغذيات؟
تلوث المياه بالمغذيات انضم إلى قائمة المخاطر التي تهدد لبنان الذي يعاني من أزمات في البنى التحتية، واستغلال جائر لموارده أثر على معدلات توافر مياه الشرب، رغم غناه بمصادر المياه نسبياً مقارنة بالدول المحيطة.
ويشير تلوث المياه بالمغذيات إلى وصول كميات مفرطة من العناصر الغذائية، مثل الفوسفور، والنيتروجين إليها، بسبب عدة عوامل، كتسربها من الأسمدة الكيميائية المستخدمة في الزراعة، أو من فضلات الماشية، أو بسبب وصول مياه الصرف غير المعالجة، أو اختلاط مياه الأمطار بالأسطح التي تحمل مثل هذه العناصر، ثم انتقالها إلى المياه، بحسب موقع وكالة حماية البيئة الأمريكية "EPA".
الاحتباس الحراري يفاقم الأزمة
التغير المناخي أدى بطرق مختلفة إلى زيادة تركيز تلك الملوثات؛ ففي حديثه إلى "جرين بالعربي"، يقول د. ميلاد الخطيب المحاضر في كلية الدراسات البيئية والهندسية في جامعة البلمند بلبنان، إن التغير المناخي، بما يصاحبه من انخفاض في كميات تساقط الأمطار، وارتفاع معدلات البخر، وتزايد الطلب على المياه، وتزايد أعداد النازحين من الدول المجاورة، أدى إلى تفاقم المشكلة الموجودة بالأساس.
"الخطيب" أشار إلى زيادة استخدام المبيدات التي تحتوي على مثل هذه العناصر خلال فترة جائحة كورونا، التي دفعت أعداداً أكبر من الناس إلى الزراعة المنزلية خوفاً من التزاحم في الأسواق، بالتزامن مع انتشار فكرة خاطئة بأن تلك المبيدات قد تساهم في القضاء على الفيروس نفسه؛ ما أدى إلى زيادة نسب المغذيات في المياه مثل الفوسفور، بجانب وصول النفايات المنزلية غير المعالجة إلى المياه، علاوة على المصانع التي تصب مخلفاتها في مياه الأنهار التي تغذي نهر الليطاني.
بحيرة القرعون.. خزان نفايات
أما بحيرة القرعون فتحولت هي الأخرى، بحسب رأي الخبير اللبناني، إلى خزان نفايات بسبب المصانع التي تلقي نفاياتها في مياهها؛ ما يؤدي إلى ظهور أنواع عديدة من البكتيريا، وتغير لون المياه، وهو ما أدى إلى نفوق أطنان من الأسماك وطفوها على سطح المياه.
البعض لجأ إلى البحث عن بدائل مثل إنشاء مزارع أسماك اصطناعية لكن المزرعة في النهاية تتمتع بمساحة صغيرة، بخلاف البحيرة؛ ما أدى إلى انخفاض مستوى تجارة السمك، وارتفاع سعره في محيط الحوض.
كما أدت التعليمات المتكررة بعدم استخدام مياه البحيرة إلى تراجع عدد السياح الذين يزورون منطقة البحيرة، فتراجع العائد الاقتصادي، وتأثرت حياة سكان المنطقة، بحسب رأي "الخطيب".
هناك أزمة أخرى أشار إليها المحاضر في كلية الدراسات البيئية والهندسية في جامعة البلمند بلبنان، وهي الاستغلال العشوائي للمياه الجوفية في لبنان؛ فأي شخص بات يمكنه الحفر واستغلال المياه، ومن ثم فإن كثرة وجود الآبار الجوفية حول حوض الليطاني استنزفت النهر، وأدت إلى ارتفاع تركيز المغذيات في ظل استمرار التلوث.
محاولات علمية
في يوليو 2023، نشرت دورية "Heliyon" نتائج فكرة اقترحها مجموعة من الباحثين لمواجهة أزمة تلوث المغذيات في مياه المنطقة، من خلال أرض رطبة اصطناعية.
وتتميز الأراضي الرطبة باقتراب مستوى سطح المياه من الأرض، ونمو النباتات التي تساهم في احتجاز العديد من العناصر الملوثة عندما تعبرها المياه.
في حديثه لـ"جرين بالعربي"، يقول الدكتور محمد رضا سليمان الأستاذ المشارك بقسم الهندسة المدنية والبيئية في جامعة بيروت العربية، إن الفكرة تتمثل في مرور المياه المحملة بالمغذيات بمحطة معالجة بالنباتات، يجري من خلالها امتصاص النيتروجين والفوسفات، حتى تخرج المياه خالية من معظم الشوائب.
ويشير الأستاذ في جامعة بيروت العربية، إلى نجاح العديد من مثل هذه النماذج في أوروبا، وفي الصين التي تضم ما يزيد عن 400 وحدة معالجة بالنباتات، لكن المشكلة تكمن في الحاجة إلى مساحات كبيرة من الأراضي.
وفقاً لـ"سليمان"، فإن العناصر الغذائية توفر البيئة المناسبة لنمو وتكاثر البكتيريا، والطحالب التي تلتهمها الكائنات الدقيقة، والتي تمثل بدورها غذاء للأسماك، لكن ما يحدث عندما تصبح نسبة المغذيات أكبر من معدل الاستهلاك، هو زيادة نمو الطحالب التي غالباً ما نراها على سطح المياه، فتمنع مرور ضوء الشمس، وتستهلك الأكسجين؛ ما يؤدي إلى نفوق الأسماك، وهو ما يحدث في البحيرات المغلقة، لكن الوضع يكون أفضل في البحار التي تتجدد بها المياه.
لكن هناك جانب آخر أشار إليه "سليمان"، خلال حديثه عن تنفيذ الفكرة، وهي أن الأصل هو منع الملوثات من الوصول إلى المياه، وهي النقطة التي اتفق فيها كذلك الدكتور ميلاد الخطيب، الذي شارك كذلك في الدراسة، وهو أن إيقاف كافة مصادر التلوث باختلاف أنواعها شرط لتحقيق نتائج الدراسة، فلا يمكن محاولة تنظيف البحيرة، وهناك أطنان أخرى من النفايات قادمة إليها.
نهر الليطاني- مصدر الصورة: EJAtlas
يشير "الخطيب" إلى أنه يمكن استغلال هذه المنطقة للعمل على تنقية المياه؛ لأن المياه تُهدئ سرعتها بها، فتترسب المغذيات في القاع، وتستفيد منها النباتات، مضيفاً أن الأراضي الرطبة تتمتع بتأثير أكبر مع النفايات البيولوجية.
ويتابع "الخطيب" أن البيانات التي حصلوا عليها من مصلحة نهر الليطاني، أشارت إلى أن معدل الفوسفور كان أكثر من المتوسط الذي وضعته وكالة حماية البيئة الأمريكية بـ37 مرة.
ووفقاً لنتائج الدراسة المنشورة، يمكن للأراضي الرطبة أن تخفض نسبة الفوسفور في نهر الليطاني بفارق 43.7%، فيما ستتراجع نسبة الأمونيا والنترات بنسبة 56% و57% على الترتيب.
أما الدكتور جلال حلواني مدير مختبر علوم البيئة والمياه في الجامعة اللبنانية، فيرى أنه قبل البدء في عملية معالجة المغذيات، لا بد من إيقاف تدفق الملوثات الصناعية التي لا تتحلل بيولوجياً؛ لأن الاعتماد على تقنية الأراضي الرطبة، يمكن أن يخفف من حجم المغذيات العضوية، لكنها – وفق رأيه – لا يمكنها التأثير على الملوثات الكيميائية القادمة من المصانع المنتشرة على ضفاف النهر.
أزمة تصدير
"حلواني" يصف نهر الليطاني بأنه أحد "الأنهار الملوثة بامتياز"، مشيراً إلى الآثار الاقتصادية الناتجة عن هذا الأمر، ومنها منع دخول المنتجات الزراعية اللبنانية إلى العديد من بلدان العالم بسبب التلوث الجرثومي والكيميائي الذي طال المحاصيل.
مدير مختبر علوم البيئة والمياه في الجامعة اللبنانية، أشار في حديثه لـ"جرين بالعربي"، إلى العلاقة بين تفاقم ظاهرتي التغير المناخي والتلوث بالمغذيات، مؤكداً أنه بسبب ارتفاع درجات الحرارة يلجأ المزارعون إلى زيادة استعمال المياه والأسمدة، فتحدث ظاهرة التخثث أو "فرط المغذيات" لأن التربة تأخذ حاجتها فقط.
بحسب "حلواني"، لا تقتصر هذه الظاهرة على لبنان فحسب، بل تمتد إلى العديد من بلدان العالم العربي التي يحاول مزارعوها التغلب على التقلبات المناخية، مثل توقف سقوط الأمطار في فصل الشتاء، أو ارتفاع درجات الحرارة خلال الربيع.
وعن تأثير تلك الظاهرة على البيئات البحرية في لبنان، قال مدير مختبر علوم البيئة والمياه، إن الشاطئ اللبناني لا يتأثر بالمغذيات إلا في حالات نادرة عند توقف الأمواج التي لها دور كبير في ضخ غاز الأكسجين.