مع كل قطعة لحم تتناولها على مائدة غدائك، تزداد كميات غازات الدفيئة التي تحاصر الأرض؛ فالماشية التي نحصل منها على تلك اللحوم تطلق كميات كبيرة من انبعاثات الميثان الذي يساهم في رفع درجات الحرارة.
ووسط الانشغال بالبحث عن بدائل تمكننا من تقليل الاعتماد على مصادر اللحوم الحيوانية في نظامنا الغذائي، يثير مجموعة من الخبراء تساؤلات أخرى حول الآثار السلبية المحتملة لاختفاء الأنواع الضخمة من الماشية.
الأبقار وغازات الدفيئة
وفقاً لموقع "Scientific American"، تساهم أبقار العالم بما يقرب من 10% من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة التي تنطلق إلى الغلاف الجوي، ويأتي قدر كبير منها من جراء عمليات التجشؤ والإخراج.
ورغم الأضرار البيئية، يتصاعد الإقبال على المنتجات الحيوانية في مناطق مختلفة حول العالم؛ ففي الولايات المتحدة التي تحتل المركز الأول في إنتاج لحوم الأبقار والألبان، وصل حجم استهلاك اللحوم إلى 20 مليار رطل عام 2021، كما زاد استهلاك الجبن والزبد والآيس كريم بفارق 12% مقارنة بالعام السابق.
وتساهم الأنواع الضخمة من الماشية بـ40% من الانبعاثات الناتجة عن قطاع الزراعة الأمريكي، وتمثل 4% من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة التي تسببها الولايات المتحدة، لكن الأمر على ما يبدو ليس بتلك بالسهولة؛ ففك التشابك بين الأبقار والمعادلة المناخية أمر معقد للغاية، لا سيما في البلدان المتفوقة في هذا المجال.
ووفقاً لدراسة نشرتها دورية "PNAS"، تقتصر نسبة الانبعاثات التي يمكن أن يمنعها اختفاء الحيوانات من القطاع الزراعي في الولايات المتحدة على 2.6% من إجمالي الانبعاثات، ورغم أن تلك النسبة تعادل 3 أضعاف الانبعاثات السنوية التي تساهم بها دولة البرتغال، فإن الأمر كذلك لم يخل من عيوب.
اختفاء الماشية يصاحبه كذلك اختفاء المحاصيل المستخدمة في إنتاج العلف كنباتات "السيلاج"، والدريس "التبن"؛ ما يفسح المجال لزراعة محاصيل أخرى، لكن إنتاج الخضراوات والفواكه العالية القيمة يتطلب مجموعة من العوامل، مثل تربة جيدة، وظروف جوية معينة، وبنية تحتية قوية لتوفير المياه، ومن المتوقع أن تقتصر غالبية الأراضي المتوافرة على إنتاج محاصيل بعينها مثل الذرة وفول الصويا، وهو النظام الذي سيكون له كذلك آثاره المناخية.
فوائد بيئية
وعلى الجانب الآخر يغفل كثيرون الفوائد البيئية التي تعود على الأرض بسبب وجود الماشية؛ فالمحاصيل تحتاج إلى الأسمدة التي توفرها الأبقار، بينما يتطلب إنتاج أسمدة صناعية استهلاك كميات كبيرة من الطاقة؛ ما يعني الحاجة إلى المزيد من الوقود الأحفوري، وزيادة انبعاثات الميثان.
كما تساهم الماشية في تقليل كميات النفايات التي تصل إلى المكبات، مثل لب الفاكهة وقشورها التي يمكن أن تتغذى عليها، لتقل نسبة البصمة الكربونية لمخلفات المحاصيل بنسبة 60%، وفقاً لمجلة العلوم الأمريكية "Scientific American".
تقول "روبن وايت" أستاذة علم الحيوان في جامعة فيرجينيا التقنية والمؤلفة الرئيسية للدراسة إن القدر الحالي للانبعاثات التي يسببها القطاع الزراعي ما هو إلا نتيجة توازن معين حدث بين الماشية والمحاصيل الزراعية.
وترى أستاذة علم الحيوان أن استبدال نباتات أخرى مكان الأبقار والعلف الذي تتغذى عليه، قد يؤدي إلى زيادة حجم السعرات الحرارية المتوافرة بنسبة 25% وما يصاحبه من نقص في عناصر غذائية لا تتوافر بما يكفي في الأنظمة النباتية مثل الحديد، وفيتامين ب 12، والكالسيوم، والأحماض الدهنية، في وقت لا زالت فيه نتائج الدراسات التي تناولت من امتنعوا تماماً عن الأطعمة المعتمدة على المصادر الحيوانية غير حاسمة.
معضلة غذائية
"وايت" قالت إن المناقشات الأكبر حول فكرة الاستدامة تميل إلى إغفال الكثير من تلك التعقيدات؛ فغالباً ما يجري ربط انعدام الأمن الغذائي بفكرة مدى كفاية السعرات الحرارية، دون النظر إلى الاحتياجات الغذائية، خاصة بالنسبة إلى الفئات الأكثر هشاشةً، كالحوامل وكبار السن، وهي الفئات المعرضة للإصابة بفقر الدم، وتراجع كثافة العظام، بسبب نقص الحديد والكالسيوم، وهي العناصر المتوافرة في اللحوم الحمراء، ومنتجات الألبان.
ووفقاً لرأيها، يؤدي التركيز على المعايير الأشمل من عملية تغيير النظام الغذائي إلى عدم ملاحظة تلك الفروق الدقيقة؛ ففي الوقت الذي يمكن فيه تحقيق التوازن على مستوى الأفراد، لا يزال الأمر معقداً على مستوى دولة بأكملها.
ومع الوضع في الاعتبار النطاق الذي يعمل به قطاع اللحوم والألبان، فإن الدور المركزي الذي يلعبه في إطعام البشر، وصعوبة استبعاده من الاقتصاد، يشير إلى أن تلك الأبقار لن تختفي قريباً.
على الجانب الآخر، هناك محاولات علمية لتخفيف الأثر البيئي للأبقار، بدلاً من فكرة تقليل الاعتماد عليها؛ فإضافة الطحالب الحمراء يمكن أن تثبت انبعاثات الميثان بنسبة 80% دون التأثير على صحة الأبقار أو إنتاجيتها.
لكن إحداث تأثير يتطلب تطبيق الأمر على نطاق واسع؛ فعلى سبيل المثال، تفضل السلالة الواعدة من الطحالب البحرية النمو في المياه الاستوائية، ومن ثم فإن تطوير سلسلة إمداد قوية بما يكفي لخدمة عشرات الملايين من الأبقار يثير عدداً كبيراً من الأسئلة التي لم نجب عنها بعد، حول عمليات الاستزراع الفعالة، وتقنيات التوزيع.
هذا التحدي يقودنا إلى فكرة أخرى، وهي محاولة إعادة هندسة الميكروبات الموجودة في أمعاء الأبقار، التي تعمل عليها العالمة جينفير داودنا التي فازت بجائزة نوبل في الكيمياء في عام 2020، مع فريق بحثي من جامعة كاليفورنيا.
الفريق البحثي أطلق مؤخراً مشروعاً لتحديد البكتيريا المعوية المتسببة في الأزمة، من خلال "الميتاجينوميات"، وهي تقنية متقدمة للغاية ترسم خريطة للتجمعات الميكروبية المعقدة، ثم تعيد تشكيل الحمض النووي لإنتاج كميات أقل من الميثان، والهدف هو تطوير علاج عن طريق الفم يتناوله صغار العجول، يمدها بمجموعة من العناصر الغذائية المعدلة وراثياً.
