يقول المؤلف الألماني بيتر فوليبن، في كتابه الشهير "الحياة الخفية للأشجار"، إن الغابة عبارة عن شبكة اجتماعية كبيرة، تتشابه فيها الأشجار مع العائلات البشرية، من حيث المعيشة والتواصل والتشارك والتحذير من المخاطر المحتملة وغير ذلك.
وكشفت دراسة حديثة نشرتها المجلة العلمية "Nature Communications" أن النباتات قادرة فعلاً على التواصل وتحذير بعضها بعضاً من الخطر، وعندما يصاب أي نبات بالمرض أو يتعرض لتهديد، يفرز مركبات عضوية متطايرة، يتم امتصاصها في الأنسجة الداخلية للنبات.
وتؤدي هذه المركبات إلى إطلاق إشارات معينة داخل الخلايا تعمل على تنشيط الاستجابات الدفاعية لحماية النباتات. وهذه المركبات الكيميائية تمثل نوعاً من التواصل؛ حيث تتسلل من النبات المصاب إلى أنسجة النبات السليم المجاور، وتنشط آليات الدفاع داخل خلاياه باعتبار ذلك نوعاً من التلقيح الطبيعي ضد الخطر القادم.
وتشير الدراسة ذاتها إلى أن هذا النوع من الأبحاث المهتم بفكرة "تواصل النباتات"، بدأ منذ ثمانينيات القرن العشرين، عندما لاحظ الباحثون أن الأشجار التي تتعرض للهجوم من الحشرات تنتج مواد كيميائية محددة تجعل أوراقها غير شهية بهدف ردع الحشرات.
تنصت النبات
ووجد العلماء حينها أن الأشجار السليمة الموجودة في نطاق الأشجار المتضررة، استعدت بالدفاعات نفسها وأنتجت المادة الكيميائية نفسها، وكأنها تتجهز لأي غزو محتمل، وأدى ذلك إلى نظرية تسمى "تنصت النبات"؛ حيث كان يُعتقد أن الأشجار تتواصل من خلال إرسال إشارات كيميائية عبر الهواء.
وعبر عدة تجارب في العقود الماضية، اكتشف الباحثون أن أكثر من 30 نوعاً من النباتات يحدث بين خلاياها هذا النوع من التواصل، لكنهم لم يتمكنوا من معرفة طبيعة هذه المركبات التي تنتجها الأشجار أو طريقة الاستشعار أو كيفية امتصاص تلك المركبات وآلية الاستجابة للمخاطر والدفاع أيضاً.
وقدمت الدراسة إجابات على أسئلة مثل ماهية المركبات العضوية التي باتت تعرف باسم المواد المتطايرة ذات الأوراق الخضراء، التي تلعب دوراً مهماً في إطلاق الإشارات المحفزة لجينات الحماية داخل الخلايا.
وتمهد الدراسة الطريق لمزيد من البحث، وتحديد مستقبلات النباتات التي تستشعر هذه المركبات الكيميائية، واكتشاف طرق أخرى للتواصل بين النباتات، بجانب فهم هذه الآلية التي تعتبر من أهم وسائل الدفاع الطبيعي لدى النبات، في الاستفادة منها وتسخيرها في مجال الزراعة وحماية النباتات.
التواصل النباتي
ويستطيع المزارعون استغلال فكرة "التواصل بين النباتات" لتحصينها ضد التهديدات والمخاطر المستقبلية، مثل هجمات الحشرات قبل حدوثها؛ وذلك من خلال تعرض النباتات السليمة للمركبات الكيميائية المنبعثة من النباتات المصابة، وتحذير النبات بشكل طبيعي؛ ما يؤدي إلى تعزيز الدفاعات الوراثية للنباتات، وتقليل الحاجة إلى مبيدات الآفات الزراعية، ومن ثم تخفيف العبء البيئي.
وتعاني البيئة كثيراً من الأضرار الجسيمة لمبيدات الآفات الزراعية، التي قد تُحدث خللاً في التوازن الموجود بين الكائنات الحية التي تعيش في التربة، وتتسبب في تلوث الهواء الذي يهدد كل مظاهر الحياة.
وقد يحمل الصرف السطحي مخلفات المبيدات إلى البيئات المائية والمياه الجوفية، بجانب المخاطر الصحية التي يتعرض لها الإنسان نتيجة تناول المحاصيل الزراعية المعرضة للمبيدات الحشرية. ورغم هذه التهديدات لا تزال المبيدات من أكثر وسائل حماية النباتات من انتشار الأمراض ومكافحة الآفات.
وفي السياق ذاته، يمكن جعل النباتات أكثر قدرةً على مقاومة الجفاف، عبر تعريضها للمواد الكيميائية التي تحفز قدرتها على امتصاص المياه وتخزينها، وتنشيط الجينات التي تلعب دوراً مهماً في حمايتها أثناء موجات الجفاف ومواجهة تأثيرات التغير المناخي.
وتملك النباتات لغة مختلفة عن البشر، لكنها في النهاية تتواصل بعضها مع بعض بشكل ذكي، كما أثبت العلم، كأن الأشجار الناطقة في الأفلام الأسطورية، لم تكن من وحي الخيال.
