حتى عشية 30 ديسمبر 2019 كان كل شيء طبيعياً، ولم يكن أحد يدري أنه في الصباح التالي سوف يتغير وجه العالم، وندخل عصر الوباء مع إعلان الصين عن مجموعة من الحالات المصابة بالتهاب رئوي في مدينة ووهان اكتُشف لاحقاً باسم فيروس كورونا.
وقبل مرور أسبوعين، تم الإبلاغ عن أول حالة وفاة ناتجة عن الإصابة بالفيروس في 11 يناير 2020، لتصبح نشرة أعداد الموتى تتصدر الصحف يومياً، ويستمر الوضع في التفاقم حتى إعلان المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس في مايو 2023 عن انتهاء حالة الطوارئ الصحية العالمية، رغم أن الفيروس لا يزال قاتلاً ويهدد الصحة العامة.
وبعد نحو ثلاثة أشهر على هذا الإعلان، ظهر متحور جديد من الكوفيد باسم "EG.5" في 51 دولة، وتم تصنيفه على أنه "متحور مثير للاهتمام" من قبل منظمة الصحة العالمية.
وباء جديد
الأكثر قراءة
كشف تقرير حكومي بريطاني حديث عن قائمة سجل المخاطر التي تواجه المملكة المتحدة، ويأتي ضمن مقدمتها وباء مستقبلي، وصفه التقرير بـ"الكارثي"؛ لأنه يمكن أن يقتل 840 ألف شخص، كما أن فرصة حدوث هذه الجائحة تترواح بين 5% و25%.
ووفق المسؤولين، جاء تصميم هذا التقرير للمساعدة على الاستعداد لـ"أسوأ السيناريوهات"، وذكر أن العلماء يعتبرون أن عدوى الجهاز التنفسي هي السبب المرجح وراء هذا الوباء المستقبلي؛ ما أعاد إلى الأذهان أزمة كوفيد.
ورجَّح التقرير أن الجائحة ستؤدي إلى إصابة نصف سكان المملكة المتحدة بالمرض بسبب نقص المناعة، وسوف تستمر لمدة تسعة أشهر على الأقل؛ حيث يقدر أن نحو 1.34 مليون شخص يحتاجون إلى علاج في المستشفى، وربما تصل حالات الوفاة إلى 840 ألف شخص في المملكة.
المختبرات ومرض X
وفي محاولة لمواجهة سيناريوهات الأوبئة المحتملة، تعمل حالياً مجموعة من المختبرات العالمية السرية على مهام تستهدف جميع أنواع التهديدات الصحية، مثل الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، أو التهديدات المحتملة التي قد تتحول إلى أزمات، ومنها متحورات كوفيد الجديدة، أو وباء قد يظهر فجأةً، أو قاتل قديم يعود إلى الحياة مثل التيفود أو السل أو الطاعون. واتفق العلماء في هذه المختبرات على أن أي شيء غير متوقع أو تهديد مستقبلي غير معروف قد يفاجئ الكوكب، يشار إليه بالرمز "أكس".
ويعد مختبر بورتون داون من أكثر مراكز البحث العلمي السرية في بريطانيا، ويهدف إلى وقف انتشار أي وباء وإنقاذ البشر وتقليل الحاجة إلى مرحلة الإغلاق التي فرضها فيروس كورونا، ومن أهم المهام توفير وتطوير اللقاحات بشكل أسرع وتحديداً خلال 100 يوم، حتى يتمكن العالم من التعامل مع أي خطر خلال مئة يوم فقط، ولا تضطر البشرية إلى انتظار عام كامل لظهور لقاح مثلما حدث من قبل.
ويحاول العالم حالياً التنبؤ بالأوبئة ومدى تأثيرها واحتمالية حدوثها، ويبني المختبرات لتطوير العلاجات المناسبة للوقوف في وجه الفيروس حال ظهوره.
ويقول الكاتب جون فيدال مؤلف كتاب " Fevered Planet: How Diseases Emerge When We Harm Nature" الصحفي ومحرر شؤون البيئة لعقود طويلة، إن تكلفة الأوبئة البشرية والاقتصادية أعلى بكثير من تكلفة الحروب، وفي المقابل لا توجد خطط حالية، سواء حكومية أو عالمية، تحاول البحث عن السبب الرئيسي لظهور الأوبئة وتفشي الأمراض المعدية في الخمسين عاماً الماضية.
ويرى فيدال أن السبب هو أولويات الحكومات وصناعة الأدوية التي تهتم باكتشاف وتطوير اللقاحات والتكنولوجيا الحديثة لعلاج أعراض الأمراض، بدلاً من معالجة أسباب المرض نفسها من الجذور.
أسباب تفشي الأمراض
وفق ما رآه جون فيدال فإن البشر يتحملون مسؤولية تفشي الأمراض في السنوات الحديثة؛ لأن نمط الحياة التي يعيشها الإنسان قد يخلق الظروف المثالية لظهور الأمراض الفتاكة، ويساهم في انتشارها بشكل أسرع وأكثر من أي وقت مضى؛ عندما يستغل الإنسان الموارد استغلالاً سيئاً، ويتلف الموائل الطبيعية؛ فهو بذلك يصنع بيئة ملائمة لظهور الأوبئة وانتشار العدوى التي يُعتقد أنها انتقلت من الحيوانات إلى البشر.
وقال: "نعيش في عصر الأوبئة مثل كورونا والجدري وإنفلونزا الطيور والسارس وفيروس نقص المناعة البشرية والإيبولا، ومع وصول أزمة المناخ إلى ذروتها واستمرار الدمار البيئي بلا هوادة، بدأنا ندفع الحساب من صحتنا".
ويوثق فيدال في كتابه "كوكب محموم: كيف تظهر الأمراض عندما نؤذي الطبيعة؟" رحلاته البيئية على مدى سنوات، من دولة الجابون الأفريقية حتى القارة القطبية الشمالية، التي تُظهِر مدى تشابك أمراض الإنسان والحيوان مع اضطرابات الكوكب.
وفسَّر فيدال كيفية بداية الوباء التي غالباً ما تكون نتيجة انتقال الفيروس من الحيوانات إلى البشر في المساحات المتدهورة من الغابات الاستوائية بالعالم؛ حيث يتعدي البشر على الموائل، ويتواصلون بشكل متزايد مع الحياة البرية غير المألوفة، ومن ثم يصبحون فريسة للأمراض التي تحملها.
واستشهد فيدال بورقة بحثية أعدَّتها أستاذة علم الأوبئة وصحة النظام البيئي كريستين كرودر جونسون، التي وجدت أن أنواع الحياة البرية المهددة والمستغلة والمطاردة تشارك المزيد من الفيروسات مع البشر، مثل الخفافيش التي تُعَد المصدر والعائل لكثير من الفيروسات التي انتقلت للإنسان.
ولذلك يعتقد الكاتب أن المطلوب لمواجهة أي جائحة ليس مجرد تطبيق منهج رد الفعل بعد ظهور الفيروس، بقدر ما يجب اتباع نهج جديد جذري لضمان الصحة العالمية، يبدأ من مرحلة معرفة الأسباب ومحاولة منع حدوث الجائحة ومسح الأماكن التي من المرجح انتقال العدوى إليها.
تقليل المخاطر
توقع فيدال أن الوباء القادم سيكون حيواني المنشأ أو مرتبطاً بالحيوانات، ومدفوعاً بأسباب بيئية متصلة بالطريقة التي تلاعَب بها البشر بالطبيعة وأدى إلى تدميرها، داعياً إلى تحول عاجل في علاقة الإنسان بالطبيعة والاستثمار في علاقة صحية مع البيئة عبر 6 أمور يمكننا القيام بها لتقليل مخاطر ظهور الأوبئة وتقليل حدتها، وهي:
1- إعادة التفكير في علاقات البشر مع الحيوانات:
منذ عام 1970 تلعب الحيوانات دوراً رئيسياً في تفشي الأمراض المعروفة، وخلال ذلك الوقت ظهر نحو 500 مرض جديد حيواني المنشأ أو من الأمراض التي تنتقل عن طريق الحيوانات، بما في ذلك إنفلونزا الطيور، وإيبولا، وزيكا، وكوفيد، وفيروس نقص المناعة البشرية.
2- إصلاح نظام المزارع الصناعية الضخمة:
يتم تربية الحيوانات في هذه المزارع بأسلوب مكثف واحتجازها بصورة جماعية. وهذه البيئة تعمل على تهيئة الظروف لانتقال أي فيروس وانتشاره بسهولة، كما يُذبَح أكثر من 70 مليار من الحيوانات سنوياً. ويعتمد إنتاج الغذاء العالمي على قطعان كبيرة من الدواجن والماشية المتماثلة وراثياً التي يتم تربيتها في ظروف عالية الكثافة ومكتظة وغير طبيعية، ويتمثل الخطر المتزايد في أن المزارع الصناعية أصبحت مصانع للأمراض، وتحتضن وتعزز مسببات الأمراض مثل الأنفلونزا، وتُمكِّن الفيروسات الشديدة الضراوة من الانتشار داخل القطعان أو الانتقال إلى البشر.
3- استعادة النظم البيئية:
شهدت السنوات الثلاثون الماضية، تحولاً سريعاً ومذهلاً في مساحات غابات العالم والأراضي الرطبة والتربة من أجل توفير أراضٍ لزراعة الغذاء، وزيادة التعدين واستخراج الوقود والطاقة بشكل هائل؛ حيث أدى قطع الأشجار والنمو السكاني إلى تجزئة جميع النظم الإيكولوجية، وساعد في خلق الظروف الملائمة لظهور الأمراض وانتشارها؛ لذلك يجب تقليل الطرق التي نُزعِج بها الطبيعة، وتقليل التفاعلات بين البشر ومسببات الأمراض.
4- التحكم في انبعاثات الاحتباس الحراري:
يزيد الاحتباس الحراري من خطر ظهور الأمراض، ويُغيِّر خريطة الأوبئة وأماكن انتشارها، وغالباً ما تؤدي هذه الظروف إلى انتشار مسببات الأمراض وناقلات العدوى، مثل الحشرات والخفافيش والقراد والحياة البرية الأخرى التي تحمل عدوى الأمراض مثل الملاريا والكوليرا وحمى الضنك، ومن ثم فإن لم يتم السيطرة على الاحتباس الحراري، من المحتمل ظهور العديد من الأمراض الجديدة في أماكن غير متوقعة.
5- التحكم في التجارب المعملية:
هناك احتمال لنشأة فيروس قاتل خلال إجراء تجربة معملية؛ إذ تستخدم الأبحاث الطبية والعسكرية أخطر أنواع البكتيريا والفيروسات ومسببات الأمراض في العالم، ويتم إجراؤها في آلاف المختبرات الحكومية والشركات والأكاديميات حول العالم، وأصبحت الطرق الجديدة لإيجاد اللقاحات والسيطرة على مسببات الأمراض الخطيرة صناعة عالمية تقدر بمليارات الدولارات؛ ما زاد من مخاطر الأوبئة المستقبلية الناشئة داخل المعامل.
6- مراقبة تطور الأمراض والقضاء على الفقر:
تستمر الأمراض المعدية في الانتشار، لكن كيفية ومدى تأثيرها وأماكن الانتشار؛ كل ذلك يتوقف على طريقة تعامل البشر. وتعتبر أنظمة الصحة العامة القوية، وخاصةً في المراكز الحضرية الكبرى في العالم، مسؤولة عن وضع أفضل سبل لرصد تفشي الأمراض الجديدة، وتحديد السلالات، ويتطلب ذلك التزام جميع البلدان بالاستثمار بكثافة في القضاء على الجهل والفقر؛ لأنه أفضل وسيلة لمكافحة الأوبئة في المستقبل.
وإجمالاً فإن الطريقة الوحيدة لضمان صحة الإنسان على المدى الطويل هي تقليل اضطرابات الطبيعة، وتجنب الاحتكاكات بين البشر ومسببات الأمراض، والتعامل الإيجابي مع الطبيعة ومساندتها للتعافي ليس فقط للحفاظ عليها مستقبلاً، ولكن لأهمية تحول البيئة إلى حليف استراتيجي يدافع عن صحة الإنسان ويحارب معه حال ظهور أي تهديد جديد.