بطاريق الجنتو.. دروس ملهمة في التكيف مع التغيرات المناخية


سلمى عرفة
السبت 15 ابريل 2023 | 03:47 مساءً
البطاريق تحذرنا من مخاطر الفحم والوقود الأحفوري - مشاع إبداعي
البطاريق تحذرنا من مخاطر الفحم والوقود الأحفوري - مشاع إبداعي

تدفع التغيرات المناخية المتسارعة في وتيرتها الكائنات الحية إلى اختبار صعب تقاس فيه قدراتها على التكيف والتطور بوتيرة تفوق ما اعتادت عليه، لتتماشى مع التحولات التي يواجهها الكوكب.

قبل مائة عام، لعبت عصافير الكناري الملونة دور حارس البشر الذي يرافقهم إلى مناجم الفحم، ليحذرهم من الأخطار الخفية بمفارقة الحياة عند مواجهتها، إذ اعتاد عمال المناجم على اصطحاب هذه الطيور التي تتمتع بحساسية عالية للغازات السامة، ليكن موتها علامة تحذيرية على وجود الخطر.

والآن تلعب البطاريق التي تشبه في حركتها أطفالا يرتدون بذلات رسمية دورا في تحذيرنا من مخاطر الفحم وبقية أنواع الوقود الأحفوري من خلال الطريقة التي تتحرك بها، وفقا للخبراء المتخصصين في دراستهم.

في الوقت الذي لم تعد لعبة "البقاء للأصلح" تسير على القواعد نفسها في القارة القطبية الجنوبية، نجح أحد أنواع البطاريق في المنطقة في صياغة درس للبشرية: عليك التكيف أو الموت.. اتخذ القرار سريعاً.

التغيرات المناخية التي أدت إلى ارتفاع درجة حرارة المحيط أثرت على البطريق حتى بات يشبه أحد حيوانات حقبة الأنثروبيسين التي تتمتع بحساسية شديدة من الظروف الطبيعية

مازالت الأنواع الستة للبطاريق التي تعيش في قارة أنتاركتيكا بمنأى عن خطر الانقراض، بأعدادهم الضخمة التي تتخطى الملايين.

مراسل شبكة "سي إن إن" ذهب في رحلة إلى القارة القطبية الجنوبية، ليصبح انطباعه الأول عن البطاريق رائعاً، إذ استقبله المئات منهم في مستعمرات عامرة بالحياة.

لكن التغيرات المناخية التي أدت إلى ارتفاع درجة حرارة المحيط أثرت على البطريق حتى بات يشبه أحد حيوانات حقبة الأنثروبيسين التي تتمتع بحساسية شديدة من الظروف الطبيعية، وبينما يقوم البعض منهم بالتخلي عن مواقع الأعشاش حيث تخرج أفراخ البطاريق منذ آلاف السنين، انهارت مستعمرات البطاريق التي ترفض الانتقال من موقعها.

تقول هيثر لينش رئيس قسم البيئة والتطور في جامعة ستوني بروك الأمريكية، لموقع "سي إن إن، إن علماء البيئة يعلمون أن الحيوانات تغير النطاق الذي تعيش فيه عبر الأزمنة الجيولوجية، إذ يختفون من منطقة ليستعمروا مناطق أخرى، لكن من النادر أن نشهد حدوث تلك التحركات خلال مشوار مهني واحد.

مثلما تفعل الفقميات، والطيور البحرية، وحيتان البالين، تلتهم البطاريق الكريل الموجود في القطب الجنوبي، وهو أحد أنواع القشريات التي تشبه الجمبري وتعتمد في غذائها على الهائمات النباتية الموجودة تحت الجليد.

على عكس القطب الشمالي حيث يتراجع حجم الجليد باستمرار، يتقلب جليد القطب الجنوبي بين الزيادة والنقصان، لكن العلماء لاحظوا مؤخرا اتجاه حاد لنقصان الجليد.

في نهاية شتاء 2014، كان هناك 7.7 مليون ميل مربع من المياه المالحة المتجمدة في القارة القطبية الجنوبية، وهو ما مثل ارتفاعا غير مسبوق انتعشت خلاله الكثير من الكائنات بأكل الكريل.

لكن الأمر اختلف هذا العام، إذ انخفض الجليد البحري إلى مستوى قياسي لأقل من 700 ألف ميل مربع، وهو أقل من الرقم القياسي الذي جرى تسجيله العام الماضي.

يقول توم هارت المحاضر في علم الأحياء بجامعة أوكسفورد بروكس البريطانية إن تغير درجات الحرارة في البيئات العادية لن تفسد يومك، لكن في القطب الجنوبي، فإن الدرجة الواحدة تمثل فارقاً كبيراً، سواء تكون غطاء ثلجي فوق مواقع التكاثر أم لا، وسواء أمكنك الوقوف فوق المياه أو الغطس بها، لأنها بيئة مختلفة تماماً.

باستخدام الأقمار الصناعية، ومصائد الكاميرات، والذكاء الاصطناعي الذي يراقب ملايين البطاريق في المنطقة، يؤكد "هارت" و"لينش" أنهما يشهدان على الطبيعة درسا عن التكيف والتطور.

بينما بقت بطاريق الـ"آديلي"، وبطاريق الذقن" عالقة بالطرق القديمة للعيش، ومتمسكة بها بشدة، كانت بطاريق "الجنتو" التي تفوقهم مرونة تتحرك نحو الجنوب أكثر فأكثر، كما استعدوا للبحث عن فريسة جديدة، أو التخلي عن أعشاشهم في المواقع التقليدية لزيادة فرص النجاة على المدى الطويل، لتستمر أعدادهم في الارتفاع بوتيرة كبيرة.

يشمل التكيف عدة أمور بداية من قوة مواجهة البيئات الصعبة، وفهم التغيرات المحيطة التي تحدث موسمياً، ومحاولة الوصول إلى أداء متوسط

ترى "لينش" إن بطاريق الجنتو أحد الرابحين في معركة المناخ، مؤكدة التقارير بأن بعض المستعمرات زادت أعدادها بنسبة 30000%، إذا استفاد هذا النوع من احترار القارة القطبية، ولم يقاوموا الحياة في بيئة تحتوي على كميات أكبر من المياه، في وقت تراجعت فيه أنواع أخرى، لاسيما البطاريق شريطية الذقن الذي انخفضت أعدادها في بعض المناطق بنسبة 80%

وفقاً لـ"هارت"، يشمل التكيف عدة أمور بداية من قوة مواجهة البيئات الصعبة، وفهم التغيرات المحيطة التي تحدث موسمياً، ومحاولة الوصول إلى أداء متوسط، فإذا لم تؤد أداءً جيدا في أحد الأعوام، عليك القيام بذلك لاحقا، إذ يتطلب الأمر تطبيق عناصر التكيف في سنة من كل 3 سنوات.

ترى رئيسة قسم التطور بجامعة ستوني بروك أن الدرس الذي يجب علينا تعلمه هو أن التمسك بما نقوم به دائما لن يجعل الأمور على ما يرام، فعلى سبيل المثال هل نتوقع أن تبقى منطقة منهاتن في الموقع نفسه بعد مائتي أو 3000 عام؟ لا نعرف، لكن لابد أن نستفيد من مرونتنا وقدرتنا على التكيف، وهذا ما يخبرنا به "الجنتو".

إلى جانب القلق من انهيار كميات الكريل نتيجة تراجع الجليد، فإن انتشار انفلونزا الطيور في الأرجنتين وتشيلي قد يقود الطيور البحرية إلى الهجرة إلى شبه جزيرة الانتاركاتيا خلال الربيع المقبل، ما سيؤدي إلى تدمير مستعمرات البطاريق.

تلك التهديدات المتعاقبة تجعل بطاريق الجنتو مثالا على ما تسميه تقارير المناخ الأممية بالحدود الصعبة أو الهينة للتكيف، فهناك نوعان من العقبات الأولى مالية أو سياسية تحول دون تنفيذ إحدى الاستراتيجيات المتاحة، وأخرى تغيرات مفاجئة أو حادة ما يمنع علاجها تماماً.

لكن هذا لا يمنع معاناة بطاريق "الجنتو" من الظواهر المتقلبة التي تشهدها القارة القطبية والتي أدت إلى تأخير موسم "التعشيش" خلال العام الجاري بشهر كامل، لأنه على الرغم من جمع أزواج البطاريق الصخور لبناء الأعشاش، وبالفعل خرجت الأفرخ لكن الوقت غالباً لن يمهلها لتنمو جلودها ونسبة الدهون في جسدها لدرجة تمكنها من النجاة، لكن المشهد وقع داخل مستعمرة واحدة في إحدى الجزر، وهناك اعتقاد بأن "الجنتو" ستتكيف حتى لو بتغيير مواعيد التكاثر.