الأشجار الموفرة للمساحات.. جراحة زراعية بـ"مشرط" التقليم الدقيق


محمد رمضان
الاثنين 28 اغسطس 2023 | 10:42 مساءً

لم يكن إطلاق الشعوب على اليابان "الكوكب المصغر" أمراً من فراغ، بل حقيقة تحمل في تفاصيلها كل جوانب الحياة؛ فمع تغطية غابات العالم أكثر من 30٪ من سطح الأرض، ولكونها مورداً طبيعياً مهماً للبشرية، كافح اليابانيون من أجل الحفاظ على كل شبر أخضر.

الكفاح الأخضر لليابانيين استند إلى تقنية غابات قديمة ظهرت خلال القرن الرابع عشر لتتبنى زراعة الأشجار عمودياً من جذع واحد لتعظيم إنتاجية الأخشاب في مساحة محدودة، لتعود هذه الممارسة المستدامة مجدداً وتعزز نمو جذوع الأشجار المستقيمة النحيلة.

فمن منطقة كيوتو، انطلقت "دايسوجي" لتصبح أحد طرق تخزين كميات هائلة من الكربون، وتضمن توازن الطبيعة وتنقية المياه والهواء، فضلاً عن توفير سبل العيش للناس في جميع أنحاء العالم. ولسوء الحظ بسبب صناعة الغابات وقطع الأشجار العالمية المتنامية باستمرار، تختفي الغابات التي تعادل 30 ملعباً لكرة القدم كل دقيقة.

تبدو أهمية طريقة "دايسوجي" التاريخية مع تسجيل أرقام مروعة عن انخفاض مساحة الغابات العالمية بمقدار 178 مليون هكتار بين عامَي 1990 و2020 وهي مساحة ليبيا تقريباً

حسب تقديرات تعود إلى عام 2019، بلغت قيمة استغلال الغابات وقطع الأشجار العالمية 509.8 مليار دولار أمريكي، وسط توقعات بنموها بمعدل نمو سنوي مركب قدره 4٪ لتصل في النهاية إلى 544.2 مليار دولار أمريكي بنهاية العام الجاري، ولكن هذا يأتي بتكلفة خضراء باهظة، وفقاً لموقع جرين كوين.

منذ عام 1990، انخفضت مساحة الغابات الأولية على مستوى العالم بأكثر من 80 مليون هكتار؛ ما يعني أن صافي الخسارة في مساحة الغابات انخفض من 7.8 مليون هكتار سنوياً في التسعينيات إلى 4.7 مليون هكتار سنوياً خلال الفترة 2010–2020. ببساطة، فإنه بين عامي 1990 و2020، انخفضت مساحة الغابات العالمية بمقدار 178 مليون هكتار، وهي مساحة ليبيا تقريباً.

إذا استمر هذا الأمر، فلن يقتصر على الأشخاص الذين يعتمدون على الغابات في كسب الرزق عن وظائفهم، بل سيتلاشى أيضاً التنوع البيولوجي الذي تساعد الغابات في الحفاظ عليه. ومن هنا كان اقتراح "دايسوجي" في نحو القرن الرابع عشر؛ حين عانت اليابان من نقص في الشتلات وكذلك الأراضي لزراعة الأشجار في وقت كان فيه الطلب على خشب الأرز "كيتاياما" مرتفعاً.

كان هذا النوع من الأخشاب المستقيمة والخالية من العقد. ونظراً إلى وجود القليل من الأراضي المستوية في المنطقة، أصبح من الصعب للغاية زراعة الأشجار والحفاظ عليها على المنحدرات الشديدة. وأدت هذه المشكلة إلى تطوير تقنية البستنة اليابانية؛ ما يفسح المجال أمام أصحاب الأشجار (الذين يتخصصون في رعاية الأشجار الفردية) لتقليل عدد المزارع التي تجعل دورة الحصاد أسرع، وإنتاج خشب أكثر كثافةً نسبياً.

وتقوم تقنية الأشجار الموفرة للمساحات باستخدام الأشجار الموجودة لزراعة أشجار إضافية؛ إذ تبدو نتيجة هذه التقنية كأنها نخلة مفتوحة بها العديد من الأشجار العمودية تماماً التي تنمو منها؛ ما ينتج عنه حصاد مستدام من الأخشاب من شجرة واحدة.

التقليم لأعلى

من الناحية المثالية، يقوم المزارع بتقليم أغصان أرز كيتاياما لضمان نمو البراعم المتبقية بشكل مستقيم لأعلى، وهذا ينتج عنه خشب مستدير ومستقيم يُعرف باسم تاروكي، على أن يتم تقليم البراعم يدوياً بعناية ورفق كل عامين، ولا تترك سوى الأغصان العلوية؛ ما يسمح لها بالنمو بشكل مستقيم. يستغرق الحصاد نحو 20 عاماً.

أما النتيجة النهائية فهي إنتاج خشب أرز رفيع ليس مرناً فحسب بل كثيف أيضاً؛ ما يجعله خياراً مثالياً للأسطح والعوارض الخشبية التقليدية، ويمكن حصاده كل 20 عاماً. ومع بقاء الشجرة الأساسية لمئات السنين، هناك الكثير من الأخشاب التي يمكن حصادها من شجرة واحدة فقط.

يبدو مظهر التقنية اليابانية كنخلة مفتوحة بها العديد من الأشجار العمودية التي تنمو منها ما ينتج عنه حصاد مستدام من الأخشاب من شجرة واحدة

باستخدام تقنية التقليم الدقيق فإنه بدلاً من حصاد الشجرة بأكملها من أجل الخشب، يمكن لقطع الأشجار استخدام الأجزاء العلوية، مع ترك القاعدة والهيكل في شكل واحد، ومن المفترض أن يكون الخشب المنتج نتيجةً لهذه الطريقة مرناً بنسبة 140٪ مثل خشب الأرز القياسي وبنسبة 200٪ كثيف وقوي ويمتد عمره لستة قرون.

للحفاظ على الأشجار خالية من العُقَد، يتسلَّق المزارعون جذوع الأشجار الطويلة كل ثلاث إلى أربع سنوات لتقليم أي فروع جديدة بعناية، وبعد نحو 20 عاماً، يتم قطع شجرة واحدة فقط. وقديماً كان هذا الخشب جزءاً أساسياً من العمارة اليابانية، لكن في هذه الأيام يُستخدَم الخشب في كل شيء من عيدان تناول الطعام إلى الأثاث.

وتتيح هذه التقنية للغابات حصاد الأخشاب بسرعة أكبر، ويمكن زرع البراعم إما للمساعدة في ملء الغابة بسرعة أو حصادها. وإذا تم القيام بها بالطريقة الصحيحة، يمكن أن تساعد في منع إزالة الغابات. وتصل حسابات القطع غير القانوني للأخشاب إلى ثلث الإنتاج العالمي للأخشاب، وهنا يتعين على الحكومات أن تفعل ما هو أفضل، وأن تبدأ بإيقاف هذا البيع غير القانوني للأخشاب.

آلية التنفيذ

تبدأ رحلة زراعة غابات دايسوجي باختيار وإعداد الشجرة الأم التي تكون صحية وناضجة بعناية، ثم يتم تقليمها استعداداً لتكاثر براعم جديدة، قبل أن ترسل الشجرة الأم براعم جديدة تعرف باسم "الساشيمونو"، تتم رعايتها بعناية ودعمها بأطر معقدة من سقالات الخيزران؛ ما يسمح لها بالنمو بشكل مستقيم وطويل.

ولا يغفل المزراعون الصيانة الدورية باعتبارها أمراً بالغ الأهمية لنجاح الأمر، وهي التي تبدأ بمراقبة نمو البراعم، بما يضمن تطوير جذوع قوية ومستقيمة، وإزالة الفروع غير المرغوب فيها، وتعزيز النمو الأمثل. وبمجرد أن تنضج البراعم يتم حصادها انتقائياً، تاركةً الجذع الأصلي سليماً، ويقلل من التأثير البيئي لإزالة الغابات.

تقنية "دايسوجي" تشجع أيضاً على التعايش بين الأنواع النباتية والحيوانية المتنوعة داخل النظام البيئي للغابات، من خلال الحفاظ على البيئة الطبيعية، وتعزيز ممارسات الحراجة المستدامة، وهو مشهد أثار ذهولاً بصرياً لجذوع الأشجار المتناسقة تماماً التي ترتفع من أرض الغابة، كما أثار إعجاب الفنانين والمهندسين المعماريين وعشاق الطبيعة.

ببساطة، تركت التقنية اليابانية علامة لا تمحى على الثقافة والتصميم الياباني، وألهمت الفنانين، وأثَّرت على الأساليب المعمارية، وأصبحت رمزاً للحياة المستدامة في وئام مع الطبيعة، وتغلغلت في جوانب مختلفة من المجتمع الياباني؛ ما يعكس الاحترام العميق للبيئة والترابط بين الحياة البشرية والعالم الطبيعي.