في السينما الهوليودية لا يخلو فيلم أمريكي من مشاهد داخل الحافلات العامة، وفي عواصم أوروبية مختلفة تزداد عروض جاذبة للشباب بهدف استقلال وسائقل النقل العامة تكاد تصل إلى تذاكر مجانية، ورغم مبادرات عربية مشابهة صديقة للبيئة، لم تغير الشابة المصرية "ياسمين. س" انطباعها عن أنها وسيلة نقل غير آمنة.
بين التوتر واختلاس نظرات خوف معتادة تجد ياسمين – 32 عاماً متشبثة بمحاولات الابتعاد عن وسائل النقل العامة بين محافظتي الجيزة والقاهرة.
وتحكي لـ"جرين بالعربي"، كيف حاولت طويلاً عدم اللجوء إلى الحافلات المعروفة مصريا بـ"الأتوبيسات" لأنها تعتبرها وسيلة نقل غير منظمة وغير مقيدة بعدد محدد من الركاب، ما يضطرها إلى الوقوف ويزيد نسبة الخطر حال وقوع حادث تصادم، كما ترتفع بها خطر التعرض للمضايقات أو السرقة.
قبل 4 سنوات، أصيبت الشابة بمرض مناعي مزمن دفعها لتقليل تنقلاتها والاكتفاء بسيارات الأجرة التابعة لإحدى الشركات الخاصة، أو اللجوء إلى سيارات خاصة أقل عدداً في الركاب "الميكروباص" عند الضرورة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحكومة المصرية أطلقت مجموعة من الحافلات بعضها تعمل بالغاز كصديقة للبيئة في منطقة القاهرة الكبرى التي تضم محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية.
المواصلات والمناخ
يساهم قطاع النقل حول العالم بـ17% من نسبة انبعاثات غازات الدفيئة التي تفاقم أزمة المناخ، ليحتل المركز الثاني بعد قطاع الطاقة، وفقاً لموقع .Statista
تقليل الاعتماد على السيارات الخاصة، واللجوء إلى وسائل النقل العام يأتي ضمن أهم الوسائل لمحاولة تخفيف انبعاثات غازات الدفيئة، لكن الصورة الذهنية لتلك الوسائل قد تعيق هذا التحول، فضلا عن الأسباب الحقيقية التي تصعب المهمة.
وسط سباق العالم نحو السيارات الكهربائية للتخفيف من ظاهرة الاحتباس الحراري، خرجت أصوات تحذر من عدم فعالية الأمر إذا ما جرى الاحتفاظ بالعدد نفسه من المركبات.
في الولايات المتحدة على سبيل المثال، حذر تحليل نشرته دورية Nature Climate Change، من أن استبدال كافة السيارات التي تعمل بالغاز بأخرى كهربائية سيخلق احتياجات جديدة من الطاقة تعادل نصف سعة الدولة من توليد الكهرباء.
قطاع النقل حول العالم يساهم بـ17% من نسبة انبعاثات غازات الدفيئة التي تفاقم أزمة المناخ، ليحتل المركز الثاني بعد قطاع الطاقة
هذا الطلب المتزايد على الكهرباء قد يؤثر على توفير الطاقة اللازمة لتشغيل أجهزة أخرى مثل أجهزة التكييف التي باتت ضرورية في ظل تكرار الموجات الحارة.
وفي حال عدم التحول إلى السيارات الكهربية، فلا تزال المعايير البيئية ترجح كفة الحافلات، إذ يبلغ متوسط الانبعاثات الناتجة عن السيارات 0.45 كجم من ثاني أكسيد الكربون لكل ميل يقطع الراكب الواحد، بينما تقتصر الانبعاثات الناتجة عن الحافلات على 0.08 كجم للمسافة نفسها إذا ما جرى تشغيلها بسعة كاملة، وفقاً لتقديرات أمريكية.
حلم قديم
في فيلم "السرعة لا تزيد عن الصفر" الذي عرضته دور السينما عام 1992، ينتقل عبدالله "أحمد بدير" وزوجته سناء "عبلة كامل" للعمل في العاصمة المصرية القاهرة، ليصطدما بزحامها الشديد وصعوبة التنقل في حافلات تعج بالبشر، ما يدفع الاثنان إلى الدخول في سباق مع الزمن لشراء سيارة خاصة، لكن تبقى التكاليف المالية عقبة أمامهما، وينتهي الأمر بالاكتفاء بدراجة، لكن السيارة الخاصة لا تزال الحلم الذي يشغل بال الكثيرين حتى الآن، رغم التطور الذي شهده قطاع النقل في الوطن العربي.
على مدى عقود طويلة، أظهرت الأعمال الفنية الحافلات بصورة سلبية، إذ ارتبطت بالزحام والمعاناة وبارتكاب الجرائم، وبالتجارب السيئة لا سيما لمن يخوض التجربة للمرة الأولى، ولا يعرفون وجهتهم بالتحديد.
"أنت متأكد إن أتوبيس المنيل بييجي من هنا؟"... "باينه شارع سد ولا ايه؟"، هكذا دار الحوار بين رمزي "أحمد حلمي" وصديقه علي "محمد فؤاد"، في أحد مشاهد الفيلم المصري "رحلة حب"، قبل أن يتمكن علي من اللحاق بالأتوبيس المزدحم، بينما هرول صديقه للحاق به دون جدوى.
الأمر لا يقتصر على الأعمال الفنية العربية، إذ تلفت الكاتبة الأمريكية كيندرا بيير لويس، في تقرير نشره موقع Scientific American، إلى ما فعله كتاب السيناريو بربط استخدام الحافلات بالأوقات العصيبة.
في فيلم Speed الشهير، تستقل آني "ساندرا بولوك" الحافلة بعدما سُحبت منها رخصة القيادة، بينما تتحطم سيارة البطلة في مسلسل "Insecure" لتضطر إلى اتخاذ القرار نفسه.
تجربة الركاب
إذا ما تجاوز الركاب فكرتهم المسبقة التي رسختها الأعمال الفنية، لا تزال هناك عوامل أخرى متشابكة تحدد وسيلة النقل الأنسب بالنسبة لهم، مثل الأمان والتكلفة ومدى الإقبال على قيادة السيارة الخاصة إن وجدت.
"ن" مصورة فوتوغرافية وتعمل في مجال التسويق على وسائل التواصل الاجتماعي روت لـ"جرين بالعربي" رحلتها في إيجاد وسيلة المواصلات الأفضل لها، بداية من اعتيادها استخدام سيارات "التاكسي"، ثم سيارات الأجرة التابعة للشركات الخاصة والتي رأتها أكثر أماناً، مع لجوئها أحياناً للمواصلات العامة.
المعايير البيئية ترجح كفة الحافلات أكثر من السيارات إذ يبلغ متوسط الانبعاثات الناتجة عن السيارات 0.45 كجم من الكربون لكل ميل يقطعه الراكب الواحد بينما تقتصر انبعاثات الحافلات على 0.08 كجم للمسافة نفسها إذا ما جرى تشغيلها بسعة كاملة
لاحقاً، تعلمت "ن"، 29 عاماً، القيادة لاستخدام سيارة الأسرة، لكنها تخلت عن الأمر بعدما وجدت صعوبة في التعامل مع زحام الطرق ومخاطرها.
بمرور السنوات، ومع ارتفاع الأسعار، استغنت تدريجياً عن سيارات الأجرة حتى أصبحت حالياً من أشكال الرفاهية بالنسبة إليها، وباتت تلجأ إليها عند الضرورة القصوى حال الانتقال لمسافات طويلة بسبب العمل.
وأشارت إلى ارتفاع أسعار المواصلات باختلاف أشكالها، ما يدفعها إلى السير على الأقدام قدر الإمكان لتوفير المال، لمواجهة زيادة الأجرة التي لا يواكبها عملها غير الثابت.
أزمة عربية
المشكلات التي تواجه الركاب بالمواصلات العامة خاصة السيدات تنتشر في دول مختلفة، ففي تونس، كشف تحليل بيانات 4 سنوات من 2011 إلى 2015، عن تعرض ما يصل إلى 90% من النساء إلى مضايقات أغلبها حدث في المواصلات العامة، وفقاً لدراسة مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة.
كما رصد تقرير صادر عن البنك الدولي في 2022 عن عدد من التحديات التي تواجه ركاب المواصلات العامة في الأردن أبرزها ارتفاع تكلفة التنقل، وتراجع مستوى الخدمة لدرجة تشعر الركاب لا سيما النساء، بغياب الأمان.
وتقتصر نسبة النساء اللاتي تلجأن إلى وسائل النقل العام من سكان المملكة الأردنية على ثلث الركاب، ما يجعل الخروج إلى سوق العمل مهمة صعبة بالنسبة لأعداد كبيرة لا يمتلكن سيارات خاصة، وتواجه فئة الشباب المشكلة نفسها.
هناك جانب آخر وهو زيادة الاعتماد على السيارات الخاصة، ففي الكويت على سبيل المثال، تمتلك كل مائة أسرة كويتية 288 سيارة، بمعدل يقترب من 3 سيارات للأسرة الواحدة، وفقاً لإحصائيات رسمية.
هناك عوامل أخرى تؤثر على قرار الفرد في الاختيار، إذ كشفت دراسة أجرتها جامعة أغدر النرويجية أن توافر أماكن لـ"ركن" السيارات تابعة لمقرات العمل يثني الموظفين عن استخدام المواصلات العامة، وفقاً لموقع Science Direct.