ضرب إعصار "شيدو" جزيرة مايوت في المحيط الهندي وألحق بها أضراراً جسيمة، وترجح السلطات مقتل المئات أو بضعة آلاف من السكان جراء أقوى وأسوأ إعصار يضرب الجزيرة منذ ما يقرب من قرن، والذي شبهه أحد السكان بـ"القنبلة الذرية".
يضاف إعصار جزيرة مايوت إلى قائمة العواصف المدمرة التي اجتاحت العالم هذا العام، لكن "شيدو" تحول الى مأساة لا تقف حدودها عند الكوارث المناخية، بل بات إعصاراً يدق جرس الإنذار على أكثر من مستوى، وفي الحقيقة لا يتعلق الأمر بطبيعة الإعصار فقط بل بخصوصية جزيرة مايوت أيضاً.
جزيرة مايوت والقارة الإفريقية
تُعد جزيرة مايوت جزءاً من أرخبيل جزر القمر، الذي يقع في المحيط الهندي قبالة الساحل الشرقي لقارة إفريقيا بين مدغشقر وموزمبيق، ويتكون الأرخبيل من 4 جزر كبرى، 3 منها تتبع رسمياً دولة جزر القمر العربية، أما جزيرة مايوت فهي تابعة للجمهورية الفرنسية.
ويركز التناول الإعلامي لإعصار جزيرة مايوت على انتمائها السياسي والإداري كمقاطعة ضمن أقاليم ما وراء البحار الفرنسية، لكن ذلك لا ينفي انتمائها الجغرافي للقارة السمراء، وهو ما يفرض تساؤلاً مهماً حول مسار الإعصار وسبب توحش العواصف في المحيط الهندي والمستقبل المناخي في دول الساحل الشرقي بالقارة والتي تضم جزر القمر والصومال.
مسار إعصار شيدو
حسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية "WMO"، اتخذ الإعصار مساراً غير عادياً، فقد دار حول جزيرة مدغشقر -الأكبر في المحيط الهندي- والتي كان من المفترض أن تضعف نظام الإعصار، لكن على العكس اشتد بسرعة وتحول إلى عاصفة من الفئة الرابعة، واستمر كإعصار استوائي شديد حتى وصل إلى مايوت، وغمرت عين الإعصار الجزيرة الصغيرة بالكامل يوم 14 ديسمبر الجاري.
ضرب الإعصار الجزيرة برياح تجاوزت سرعتها 225 كم / الساعة، ورافقت الرياح أمطاراً غزيرة بلغت 176 ملم في 12 ساعة، فضلاً عن أمواج خطيرة بلغ متوسط ارتفاعها أكثر من 5 أمتار، وكانت قوة الإعصار كبيرة لدرجة أنه دمر بعض هياكل المراقبة التابعة لهيئة الأرصاد الجوية الفرنسية
وتسببت العواصف الساحلية والأمطار الغزيرة في حدوث فيضانات بموزمبيق، ومع استمرار الإعصار في التقدم إلى الداخل شهدت جنوب ملاوي أيضاً أمطاراً غزيرة ورياحاً قوية قبل أن يضعف نظام إعصار "شيدو".
العواصف في المحيط الهندي
وفقاً لهيئة الأرصاد الجوية الفرنسية، كانت هذه أعنف عاصفة تضرب مايوت منذ أكثر من 90 عاماً على الأقل، فهو حدث نادر في الجزيرة.. فلماذا توحشت الأعاصير المدارية؟
ينشأ الإعصار المداري على شكل عاصفة سريعة الدوران فوق المحيطات المدارية، ومنها المحيط الهندي، حيث يمتد موسم الأعاصير في جنوب غرب المحيط الهندي -منطقة إعصار شيدو- عادةً من منتصف نوفمبر إلى نهاية أبريل.
ويوضح خبراء أن تغير المناخ يجعل الأعاصير المدارية أكثر تدميراً، حيث تعمل المحيطات الأكثر سخونة على تغذية العواصف بمزيد من الطاقة، كما يحتفظ الهواء الأكثر دفئاً بمزيد من الرطوبة، والتي تتحول إلى أمطار غزيرة.
وأكدت ليز ستيفنز، خبيرة الأرصاد الجوية بجامعة ريدينغ البريطانية، اشتداد الأعاصير المدارية في جنوب غرب المحيط الهندي، بما يتسق مع توقعات العلماء، حيث كانت درجة حرارة مياه المحيط الهندي مرتفعة بشكل لا يصدق هذا العام، مما ساهم في تعزيز قوة الإعصار المداري "شيدو" وتحوله إلى عاصفة من الفئة الرابعة مع زيادة سرعة الرياح بشكل كبير.
وتوقع المركز الإقليمي التابع للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية لرصد الأعاصير المدارية في جنوب غرب المحيط الهندي، أن يتميز موسم الأعاصير 2024-2025 في المنطقة بنشاط شبه طبيعي إلى أعلى من الطبيعي، مع توقع وجود ما بين 9 إلى 13 نظاماً إعصارياً، وقد يصل 4 إلى 7 منها إلى مرحلة الإعصار المداري.
المستقبل المناخي في منطقة الساحل الشرقي الإفريقي
توصلت دراسة أجرتها جامعة إمبريال كوليدج لندن، إلى أن تغير المناخ يحعل الأعاصير المدارية في منطقة جزيرة مايوت أكثر شدة وأكثر تدميراً، مع زيادة احتمالات تواتر العواصف وتأثيرها القوي على المنطقة بنسبة 40% مقارنة بالماضي.
كما توفر المياه الدافئة بالمحيط الهندي الوقود لتشكيل وتكثيف الأعاصير بشكل أسرع بسبب أزمة المناخ، وفي حال وصلت درجة الحرارة إلى 2.6 درجة مئوية، وهو المتوقع أن يحدث بحلول عام 2100، فإن الأعاصير المدارية المدمرة مثل "شيدو" قد تصبح أكثر تكراراً مع تكثيف الرياح القوية، مما يرفع تصنيف العواصف من الفئة الثالثة إلى الفئة الرابعة بالمنطقة.
كل هذه التحليلات والتوقعات تشير إلى أن إعصار "شيدو" الذي ضرب جزيرة مايوت، بمثابة جرس إنذار لتفاقم أزمة الأعاصير المدارية بالسواحل الإفريقية المطلة على المحيط الهندي بسبب تغير المناخ.
عدم المساواة والأزمات الإنسانية وراء تفاقم كارثة الإعصار
ارتفعت حصيلة القتلى المعلن عنها رسمياً إلى 22 شخصاً مع إصابة أكثر من 1400 آخرين، وفقاً لأحدث تقرير صادر عن مستشفى مايوت، لكن السلطات تخشى ارتفاع عدد القتلى إلى "عدّة مئات" أو حتى "بضعة آلاف"، حسب "يورونيوز"
وتضرر نحو 70% من سكان الجزيرة إثر الإعصار المدمر، والذي أدى إلى تدمير أحياء بأكملها، وقطع شبكات الاتصالات والكهرباء وإمدادات مياه الشرب عن العديد من المجتمعات، وسط مخاوف من انتشار الأوبئة والجوع وانعدام القانون في جميع أنحاء الجزيرة، وقد وصفت ممرضة تعمل في المستشفى الرئيسي بالجزيرة الوضع بـ"المأساوي والكارثي"، في حديثها مع قناة "بي إف إم" التلفزيونية الفرنسية.
يأتي هذا التأثير المدمر للإعصار بعد التحذيرات الدقيقة والتنبؤات التي أصدرتها هيئة الأرصاد الجوية الفرنسية قبل أكثر من 50 ساعة من وقوع الإعصار، حيث صدر الإنذار المبكر الأول يوم الجمعة 13 ديسمبر في الساعة 7 صباحاً بالتوقيت المحلي، لكن رغم ذلك تحول الإعصار إلى كارثة.. فما السبب؟
تعاني مايوت من عدم المساواة بينها وبين باقي الأقاليم الفرنسية، فهي المقاطعة الأكثر فقراً، حيث يعيش 75% من سكانها تحت خط الفقر، ويقطن حوالي ثلث السكان في مساكن هشة تعرف بـ"أكواخ الصفيح" وتفتقر إلى البنية التحتية الأساسية التي دمرها الإعصار تماماً.
وأرجع البروفيسور فريديريك ليون، مدير مختبر الجغرافيا والتخطيط في جامعة مونبلييه، الخسائر البشرية والمادية المرعبة للإعصار إلى سياسة إهمال القضايا الاجتماعية مثل الفقر والهجرة غير الشرعية والأكواخ الصفيحية.
وأوضح البروفيسور ليون لصحيفة "لوموند الفرنسية"، أن جزيرة مايوت منطقة شديدة الضعف ولا يملك سكانها ثقافة تجنب المخاطر أو الاستعداد الجيد للمواجهة.
وعلى المستوى الحكومي، ركزت السلطات على المشاكل العديدة التي تواجه مايوت، من أزمة المياه والكوليرا وانعدام الأمن، وصرفت انتباهها عن خطر الأعاصير؛ لذا لم تستطع مايوت الاستعداد والتكيف مع تغير المناخ أو تحضير خطط للطوارئ المحلية، وإدارة الأزمات والتدريبات اللازمة.
الأزمات الإنسانية أيضاً ساهمت في تفاقم الكارثة المناخية وخروجها عن السيطرة، فرغم كون مايوت المقاطعة الأفقر فرنسياً لكنها غنية نسبياً مقارنة بجيرانها الأفارقة، بسبب المساعدات الاقتصادية الفرنسية؛ لذا يتدفق آلاف المهاجرين غير الشرعيين إلى الجزيرة أملاً في مستوى معيشي أفضل أو الحصول على الجنسية الفرنسية لأطفالهم.
ويعتبر المهاجرون أحد أسباب زيادة الضحايا والمفقودين بالجزيرة، رغم تفعيل نظام الإنذار المبكر قبل إعصار "شيدو"، حيث يتوقع المسؤولون أن العديد من المهاجرين غير الشرعيين لم يأتوا إلى الملاجئ المخصصة بسبب الخوف من الاعتقال، بعد أن فرضت فرنسا تأشيرة دخول على مواطني أرخبيل جزر القمر عند السفر إلى مايوت، وهم الذين اعتادوا التنقل بحرية بين جزر الأرخبيل للعمل أو لأسباب اجتماعية.
ورغم انفصال مايوت نهائياً عن شقيقاتها الجزر القمريات الثلاث الأخرى، بعد أن صارت مقاطعة فرنسية بشكل رسمي عام 2011، لكن تبقى مايوت تاريخياً جزءاً من الأرخبيل ذات الأغلبية المسلمة والذي حكمه العرب مدة تزيد على قرن من الزمن، لذلك من الصعب فرض قيود على التنقل بين الجزر الأربعة.
قضية العدالة المناخية
مع كارثة إعصار شيدو تعود قضية العدالة المناخية إلى الواجهة من جديد، وتقول الدكتورة فريدريك أوتو، المؤسس المشارك لمؤسسة "World Weather Attribution " في حوارها مع "يورونيوز": "لقد أصبح ضحايا الفقر هم ضحايا أزمة المناخ، وإعصار مايوت مثال مأساوي على أن التغير المناخي يستغل الفقراء والأكثر ضعفاً".
وأضافت أنه من المؤسف شيوع هذا الوضع المحزن في إفريقيا، القارة التي تساهم بأقل قدر من الانبعاثات ولكنها تعاني من أسوأ الأحداث المناخية المتطرفة، وإذا استمرت البلدان في حرق الوقود الأحفوري، فإن الطقس المتطرف سوف يستمر في تعميق عدم المساواة، وإزهاق الأرواح وتدمير سبل العيش.
وأكدت هيلين هوكر، خبيرة الأرصاد الجوية بجامعة ريدينغ البريطانية، أن التأثيرات المدمرة التي خلفها إعصار شيدو تظهر مدى ضعف الجزر الصغيرة في مواجهة تغير المناخ، والكثير من الدمار يرجع إلى افتقار المجتمعات ذات الدخل المنخفض إلى طرق التكيف والاستعداد للأعاصير المدارية التي تحدث في جميع أنحاء جنوب إفريقيا.
وأخيراً، يجب أن يقوم المجتمع الدولي بدوره في دعم الجزر الصغيرة والدول الفقيرة للصمود في مواجهة الأعاصير، ولا يكفي مجرد تطوير أنظمة الإنذار المبكر، بل يتعين تحسين البنية الأساسية الحيوية وبناء ملاجئ الإخلاء لتوفير مكان آمن من أجل حماية المجتمعات المعرضة لخطر التغيرات المناخية.