بين نقطة اللاعودة والاستسلام لكوارث التغيرات المناخية، رفع أطباء معنيون بالصحة النفسية ومن خلفهم الملايين من البشر "راية الاستسلام"، أمام التقارير المحذرة من تأثيرات التغيرات المناخية على الصحة النفسية لثمانية مليارات إنسان حاليا.
ومع تصاعد موجات التحذير من آثار التغيرات المناخية اجتماعيا واقتصاديا، انضمت الصحة النفسية إلى قائمة الحصار المفروض على البشرية بفعل الاحتباس الحراري؛ إذ تزايدت المطالب بأهمية إدراج الدعم النفسي على قائمة علاجات آثار المناخ.
وربما لم يكن الالتفات لهذا الجانب النفسي، بدون مجموعة من التقارير المحذرة من ذلك، لعل أبرزها تقرير أصدرته هيئة المناخ التابعة للأمم المتحدة، في فبراير 2022، حول تهديد تغير المناخ المتزايد بسرعة للصحة النفسية والاجتماعية وارتفاع المشكلات النفسية التي تبدأ من الضيق العاطفي إلى القلق والاكتئاب والسلوك الانتحاري، والتي تظهر في قائمة من الأمراض.
أكثر الفئات عرضة للاضطرابات النفسية بتغير الحالة المناخية هم الأشخاص الذين لديهم ألم نفسي لكنهم تجاهلوه على مدار السنوات
اكتئاب دائم
مع تقلبات فصول السنة، يحدث ما يسمى باكتئاب تغير الفصول، ومع تزايد التغيرات المناخية ترتفع معدلات تقلبات الطقس السريعة في اليوم الواحد، وهو ما يؤثر بشكل سلبي، خاصة على أصحاب التاريخ المرضي النفسي.
الدكتورة أمل محسن، استشاري الصحة النفسية عضو المجلس الأمريكي للمستشارين النفسيين المتخصصة في العلاج الشعوري، اعتبرت أن المشاعر السلبية هي التي تؤدي إلى عددٍ من المشكلات النفسية، موضحة أن الطبيعة تؤثر على الإنسان بالإيجاب أو السلب أيضا.
وأكدت أن البشر في مختلف مناطق العالم تتأثر بالتقلبات المناخية، خاصة في السنوات الأخيرة، والتي لم يعتاد عليها مئات الملايين، لكن تظل الشريحة الأكثر تضررا الأفراد أصحاب الملفات الأساسية النفسية، ومن ثم فإن تلك التقلبات تساعد في إظهار الشعور الداخلي الموجود مسبقًا.
ومضت المتخصصة بالعلاج الشعوري في حديثها بقولها: "أكثر الفئات عرضة للاضطرابات النفسية بتغير الحالة المناخية هم الأشخاص الذين لديهم ألم نفسي لكنهم تجاهلوه على مدار السنوات، وبالتالي مع أول تغيرات في الطبيعة يتأثر أي شخص لديه بوادر أزمة نفسية ليصبح الأكثر عرضة للوصول للذروة مع وجود تقلبات مناخية".
غضب دائم
من بين آثار التغيرات المناخية، الارتفاع الجنوني في درجات الحرارة، وما ينتج عنها من حر شديد وشعور بعدم الارتياح، بما يؤثر على الحالة المزاجية والنفسية، وتزداد الصعوبة مع دول لم تعتاد على درجات حرارة مرتفعة وطقسها أقرب للاعتدال.
وما بين هذا وذاك، فإن كل هذه الأجواء ستقود في النهاية إلى انتشار مشاعر غضب أكثر ظهورا بين شعوب البلاد التي كان طقسها أقرب للاعتدال.
نحو 75% من المراهقين لديهم قلق ومخاوف من المستقبل، بسبب التغيرات المناخية المستمرة
قلق المراهقين
من بين عشرات التقارير، كشف تقرير للجمعية الأمريكية لعلم النفس، أن خدمات الصحة العقلية الطارئة أظهرت ارتفاعًا ملحوظًا في محاولات الانتحار ومشكلات أخرى، خلال الزيادة الموضحة في عام 2020 إلى 2022 في متوسط درجات الحرارة.
ووفقا للتقرير نفسه فقد يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى صعوبة التحكم في التوتر، مما يؤدي إلى الإضرار بالصحة العقلية، وهنا يصبح ضروريًا التحلي بالصبر والتحكم في مزاجه للتمكن من الحفاظ على الاستجابة الذهنية، وتجنب القلق والإصابة بنوبات الاكتئاب الحادة.
الدكتورة سهام حسن، أخصائي نفسي في تعديل سلوك أطفال ومراهقين، أكدت أن ما نسبته 75% تقريبًا من المراهقين لديهم قلق ومخاوف من المستقبل، بسبب التغيرات المناخية المستمرة واضطراب القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، واضطرابات حدة المزاج.
غير أن متابعة الأخبار التلفزيونية وتعليقات وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الذين لا يشعرون بالتغيرات المناخية من الأطفال والمراهقين، يعرضهم أيضًا للإصابة بالقلق والاكتئاب المستمر والخوف من المستقبل ورسم سيناريوهات تخيلية لما يحدث بسبب الخوف المسيطر على الأفكار والمشاعر.
‘‘الأطفال هم أول المتأثرين مباشرة جراء التغيرات المناخية، بينما ستكون النساء الحوامل والأجنة في رحم آلامها هم الفئة الأكثر تأثرًا بشكل غير مباشر، سواء كان التأثير بدنيا أو عقليا‘‘
نقص الانتباه والتوحد
وتقول الدكتورة سهام حسن إن الأطباء النفسيين يكاد يجمعون على أن الأطفال هم أول المتأثرين مباشرة جراء التغيرات المناخية، بينما ستكون النساء الحوامل والأجنة في رحم أمهاتها هم الفئة الأكثر تأثرًا بشكل غير مباشر، سواء كان التأثير بدنيا أو عقليا، والذي يتسبب في الاضطرابات النفسية لدى الأطفال.
وتؤثر المستويات الاجتماعي والثقافية والاقتصادية على نمو الأطفال بدنياً وعقلياً ونفسياً، فكلها مرتبطة بوعي الآباء والأمهات تجاه الحفاظ على صحة أبنائهم.
وهناك العديد من الأبحاث التي أفادت بوجود ربط بين التعرض لتلوث الهواء قبل الولادة على صحة الأم وبعدها على الطفل والأم معاً وبين انخفاض معدل الذكاء واضطرابات النمو مثل اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه والتوحد، والاكتئاب والقلق بسبب التغيرات في دماغ الطفل، فالكوارث والتغيرات التي يسببها المناخ يمكن أن تدفع الجهاز العصبي إلى ما هو أبعد من قدرته على التنظيم لهذا تحدث هذه الاضطرابات العقلية والنفسية.
الخوف وعدم الشعور بالأمان
وجود تغيرات مناخية بشكل مفاجىء سيؤدي إلى بعض تغيرات الطبيعة مثل ظهور تغيرات على فطرة الحيوانات، وأيضا ظهور وانتشار أمراض وفيروسات لم تكن معروفة من قبل وذلك يعزز الشعور بالخوف الدائم وعدم الشعور بالأمان.
أصدرت منظمة الطب النفسي الأمريكي تقريرا يثبت أن التغيرات المناخية لها تأثير قوي على الحالة العقلية للبشر بالإضافة لتأثيرها على الصحة بشكل عام.
توجد جزيرة يونانية أصيب أكثر من نصف سكانها باضطراب ما بعد الصدمة جراء ظاهرة حرائق الغابات
اضطراب ما بعد الصدمة
الكوارث الطبيعية الناتجة عن التغيرات المناخية، بما في ذلك الفيضانات والأعاصير والعواصف، تضع الملايين في دائرة مرض اضطراب ما بعد الصدمة، وما يزيد من المعاناة أن وتيرة تلك الكوارث تزيد ومتوقع استمرارها لسنوات عديدة.
وبحسب تقرير نشره موقع "سي إن إن" الأمريكي، فإن تكرار الكوارث الطبيعيّة يؤثر على الكثير من الأشخاص بطرق مختلفة مثل استنشاق الدخان الناجم عن حرائق الغابات.
كما أصدرت الجمعية الأمريكية لعلم النفس تقريرا يوضح أن الناجين من الكوارث الطبيعية مصابون باضطراب ما بعد الصدمة وهو الأكثر ضررا للصحة العقلية.
ووفقا للتقرير توجد جزيرة يونانية أصيب أكثر من نصف سكانها باضطراب ما بعد الصدمة جراء ظاهرة حرائق الغابات التي طغت السنوات الماضية.