الحدود الطبيعية المتحركة.. خرائط جديدة يرسمها تغير المناخ


مروة بدوي
السبت 10 فبراير 2024 | 05:46 مساءً

تعد الحدود بين الدول بمنزلة خطوط حمراء ثابتة وصارمة، لا يمكن التعدي عليها أو المساس بها؛ حتى لا يشتعل فتيل النزاع والصراعات، لكن في عصر المناخ تبدل كل شيء، ولم يعد هناك ثوابت، وبات تغير الحدود أو تحرك الخطوط الفاصلة بين الدول أمراً عادياً لا تتحمل مسؤوليته القوى العسكرية والاستعمارية، بل غضب الطبيعة الذي يتفاقم كل يوم مع الصدمات المناخية.

وإذا كانت الحدود في الماضي تُرسم بموجب معاهدات ما بعد الحروب، فإن تداعيات التغير المناخي الآن تنقل وتغير أماكن الخطوط الحدودية بين الدول كما يحلو لها، حتى ظهر مصطلح جديد في عالم جغرافيا المناخ يعرف بـ"الحدود الطبيعية المتحركة" بين البلاد.

الحدود الطبيعية المتحركة

حسب دراسة أجرتها جامعة " The American University" في واشنطن، يتم ترسيم الحدود غالباً بواسطة ظواهر طبيعية مثل الأنهار العذبة والأنهار الجليدية والبحار والمحيطات. هذه الكتل المائية، سواء المتحركة أو المجمدة والمالحة، تتأثر بالتغيرات المناخية التي تعمل على انحسار الماء المتجمد، ولكنها على النقيض تزيد الماء المالح. ومع تواتر معدل الأحداث المتطرفة مثل الفيضانات، سوف يتغير توزيع المياه وتوافرها عبر ثلاث طرق أساسية:

أولاً– المياه العذبة:

تعتبر الأنهار حدوداً طبيعية مهمة؛ لأنها تمثل أكثر من ثلث الطول الإجمالي للحدود البرية الدولية. ويمكن للظواهر المناخية تغيير تدفقات الأنهار أو حفر قنوات جديدة وتجفيف أخرى.

ثانياً– النهر الجليدي:

الأنهار والقمم الجليدية تمثل حدوداً شائعة في المناطق الجبلية كما نرى في قارة أوروبا، لكنها باتت تذوب سريعاً وبشكل مفاجئ بسبب الاحتباس الحراري.

ثالثاً– الحدود البحرية:

قد يؤدي ارتفاع مستوى المحيطات إلى تغيير الحدود البحرية والتأثير على الحقوق الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخاصة بكل دولة.

وتشير الدراسة الأمريكية إلى أن تغير الحدود الناجم عن المناخ، والاختلافات في قواعد القياس بين الدول، قد يؤدي إلى "صراع حدودي"؛ لأن بعض الدول ربما تتقبل فكرة الحدود المتحركة والبعض الآخر قد يتعامل معها بعدائية، ومن ثم يتسبب التغير المناخي في صراع إقليمي على الحدود.

أمثلة للحدود الطبيعية المتحركة بين الدول وطرق التعامل معها:

الحدود المائية بين بنين والنيجر

من أشهر حالات النزاع التي تم اللجوء فيها إلى محكمة العدل الدولية، قضية الحدود بين بنين والنيجر عبر حوض نهر ميكرو؛ وهو من أحواض الأنهار العابرة للحدود، وأحد روافد نهر النيجر الذي يفصل بين بنين وبوركينا فاسو والنيجر.

يكتسب النهر أهمية كبيرة لأنه يلبي الاحتياجات الأساسية للسكان من المياه في واحدة من أفقر مناطق العالم، كما يؤمن النشاط الاقتصادي للسكان، ويحافظ على النظم البيئية الهشة، لكنه يعاني من التقلبات المناخية وتذبذب هطول الأمطار.

نتيجة تغيرات تدفق النهر، نشب نزاع حول ملكية جزيرة ليتي الجزيرة الكبرى بالمنطقة التي تغمرها الفيضانات موسمياً؛ ما يجعلها ذات قيمة كبيرة لرعاة الماشية في موسم الجفاف.

وكادت الحرب تشتعل بين النيجر وبنين عام 1963 بسبب هذه الحدود المتحركة، لكنهما اختارتا في النهاية تسوية النزاع بالوسائل السلمية. وفي أوائل التسعينيات، تم تكليف لجنة مشتركة لترسيم الحدود بين الدولتين، لكنها لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق، حتى استطاعت محكمة العدل الدولية إنهاء الصراع وحكمت لصالح النيجر عام 2005.

واعتمدت اللجنة الدولية للفصل في النزاع على "خط التالوك" أو الخط الذي يمثل الحدود بين أي دولتين يفصل بينهما مسطح مائي. ويستخدم هذا المصطلح في القانون الدولي للإشارة إلى خط القعر لترسيم الحدود البحرية والملاحية في المياه الإقليمية بين البلاد.

وبفعل الظواهر المناخية، قد تتعرض إحدى ضفتي النهر للتآكل أو تغيير تدفق مسار النهر؛ ما يؤدي إلى تحرك أو تقدم خط التالوك الذي يقسم النهر عند منتصفه، ومن ثم تزحف الحدود باتجاه إحدى البلدين؛ ما يترتب عليه خسارتها جزءاً من المياه الإقليمية والوادي لصالح البلد الأخرى؛ ولذلك تتم مراجعة خط التالوك كل مدة زمنية محددة لتفادي النزاعات.

ذوبان الأنهار الجليدية بين إيطاليا وسويسرا

تستخدم بعض القمم والنقاط المرتفعة في الأنهار الجليدية للإشارة إلى الحدود الدولية، كما في مناطق جبال الألب بأوروبا، وغالباً ما تُرسم الحدود السياسية على الخطوط الجبلية الثلجية، لكن ذوبان الأنهار الجليدية والتربة الصقيعية، نتيجة قلة تساقط الثلوج وارتفاع درجات الحرارة، يعيد تشكيل المشهد الطبيعي، وتضطر السلطات المحلية في بعض الأحيان إلى إعادة رسم الخريطة.

وأوضح ماتياس هاس الخبير ورئيس شبكة غلاموس السويسرية لمراقبة وقياس الأنهار الجليدية "GLAMOS" في حوار صحفي مع موقع "Euractiv" أن أكبر الأنهار الجليدية تتراجع بالفعل بسبب تغير المناخ، بينما اختفت العديد من الأنهار الجليدية الصغيرة تماماً، ويتبقى حالياً 1400 نهر جليدي في سويسرا، وأردف قائلاً إنه "خلال الأربعين سنة الماضية اختفى نحو 1000 نهر جليدي، بعضها لم يكن ذات أهمية، ولكننا الآن بصدد أن نفقد عدداً من الأنهار الجليدية المهمة".

ويذكر موقع "Euractiv" المتخصص في سياسات الاتحاد الأوروبي، أن الحدود بين إيطاليا وسويسرا يعاد رسمها أو تصحيحها كل فترة نتيجة تداعيات التغير المناخي وانصهار الجليد.

على مدى قرون، استخدمت الدولتان الحاجز الطبيعي لجبال الألب مرجعاً حدودياً، وأثناء الحرب العالمية الثانية تم تحديد لجنة ثنائية للتعامل مع الانهيارات الأرضية والجليدية التي يمكن أن تؤثر على الحدود

وفي عام 2009، تمت الإشارة رسمياً إلى مفهوم "الحدود المتحركة" في الاتفاقية المبرمة بين إيطاليا وسويسرا، واتفق البلدان على التكيف مع حركة الحدود بسبب ذوبان النهر الجليدي، وكل عامين تجرى عملية قياس من قبل لجنة مكونة من مهندسين وفنيين إيطاليين وسويسريين للتحقق إذا ما كان أي شيء قد تغير وتعيد رسم خط الحدود بدقة.

أزمة بسبب منتجع تزلج على حدود البلدين

عادت قضية الحدود بين سويسرا وإيطاليا إلى الواجهة من جديد بسبب منتجع تزلج يسمى Guide del Cervino، تم بناؤه قبل أربعين عاماً داخل الأراضي الإيطالية، حتى فوجئ مالك المنتجع منذ فترة أن جزءاً من أراضي المبنى باتت داخل الحدود السويسرية، والمفترض أن تخضع لقوانين سويسرا ونظام ضرائبها. ويصف مدير المنتجع الوضع في حوار مع صحيفة "il post " الإيطالية قائلاً: "لقد باتت غرفة المعيشة مقسمة إلى جزئين: قسم سويسري والآخر إيطالي".

يمر الخط الحدودي بين سويسرا وإيطاليا عبر تجمع من المياه على جانبي جبال الألب، ويرجع سبب تحرك هذا الخط الحدودي إلى تراجع نهر ثيودول الجليدي، الذي فقد نحو ربع كتلته بين عامي 1973 و2010، بسبب الاحترار وذوبان الثلوج؛ ما أدى إلى كشف الصخور الكامنة وتغيير شكل التلال ومن ثم تغير مسار تجمع مياه الصرف؛ حيث تسللت المياه الذائبة نحو المنتجع؛ ما جعل الخط الحدودي الافتراضي، الذي من المفترض أن يوجد على بعد أمتار قليلة من المنتجع، يتحرك حتى يمر مباشرة أسفل المبنى ويقسمه بين البلدين.

متخصص بالقانون الدولي:

 القانون الدولي عالج مثل هذه النزاعات الناجمة عن تحرك الحدود الطبيعية، ووضع آليات لتسويتها من خلال التفاوض الدبلوماسي

الحدود الطبيعية المتحركة في العالم العربي

تعتمد الحدود العربية على اليابسة، لكن هناك حدوداً تتكون من الكتل المائية، ويوجد بالفعل ملف الحدود المائية بين العراق وإيران وقضية إعادة رسم خط التالوك في شط العرب، التي تعتبر قضية حدود طبيعية متحركة في الأساس، فكيف يتم التعامل مع هذه الأحداث بشكل قانوني في العالم العربي؟ وما الجهة المختصة بفض هذا النوع من النزاعات؟ تطرقت جرين بالعربي إلى هذه القضايا مع الدكتور محمد محمود مهران المتخصص في القانون الدولي العام، والخبير في النزاعات الدولية، الذي أكد أن التغيرات المناخية باتت تطرح تحديات كبيرة أمام تعيين الحدود الإقليمية بين الدول؛ ما قد يؤجج الصراعات الحدودية بينها.

وقال مهران، في تصريح خاص لموقع "جرين بالعربي"، إن القانون الدولي عالج مثل هذه النزاعات الناجمة عن تحرك الحدود الطبيعية، ووضع آليات لتسويتها من خلال التفاوض الدبلوماسي واعتماد قواعد موحدة للقياس، مشيراً إلى أنه إذا فشلت المفاوضات يلجأ الطرفان إلى الوساطة أو التحكيم أو التقاضي أمام المحاكم الدولية للفصل في النزاع وفقاً لأحكام القانون الدولي.

وبين أنه يمكن التعامل مع نزاعات الحدود الناجمة عن التغيرات المناخية من الناحية القانونية عبر اللجوء إلى التفاوض الدبلوماسي بين الدول المتنازعة للتوصل إلى اتفاقيات ثنائية بشأن ترسيم الحدود الجديدة، مشيراً إلى أنه يمكن أيضاً الاتفاق على قواعد ومقاييس موحدة لرسم الحدود تراعي التغيرات في مسارات الأنهار وخطوط السواحل بفعل تغير المناخ.

هذا بالإضافة إلى إشارته إلى إمكانية اللجوء إلى الوساطة أو التحكيم الدولي إذا فشلت المفاوضات المباشرة، ليتولى طرف ثالث حسم النزاع ودياً وفقاً لأحكام القانون الدولي، فضلاً عن إمكانية طلب آراء استشارية أو فتوى من محكمة العدل الدولية بخصوص الجوانب القانونية للنزاع الحدودي، أو طلب فصلها في موضوع تعيين الحدود.

كما أوضح الخبير الدولي وجود عدة جهات إقليمية بالوطن العربي يمكنها التعامل مع نزاعات الحدود الناجمة عن التغيرات المناخية، من أبرزها جامعة الدول العربية التي لها دور محوري في تسوية المنازعات بين الدول الأعضاء عبر آلياتها كلجنة فض النزاعات العربية، داعياً إلى إنشاء هيئة دولية متخصصة لتسوية المنازعات المرتبطة بتغير المناخ تتولى الإشراف على عمليات إعادة تعيين الحدود وتقديم الخبرة الفنية حول كيفية مواجهة مثل هذه التحديات.

وفيما يتعلق بملف الحدود المائية بين العراق وإيران في منطقة شط العرب، أوضح أستاذ القانون الدولي أنه ينبغي التعامل مع هذا الملف بحكمة وروية بعيداً عن أي تصعيد؛ نظراً إلى أهميته الجيوسياسية وتداعياته على العلاقات الثنائية، مناشداً البلدين ضرورة اللجوء إلى التفاوض الدبلوماسي البنَّاء على ضوء المعايير القانونية الدولية المعتمدة لترسيم الحدود البحرية والمتضمنة في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982.

وأردف "مهران" أنه ينبغي الاتفاق على قواعد موضوعية لقياس مسار خط التالوك بما يراعي حقوق الطرفين ومصالحهما المتبادلة في المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، منوها أنه يمكن كذلك اللجوء إلى الوساطة العربية أو الدولية في حال بلوغ النزاع طريقاً مسدوداً لإيجاد صيغ توفيقية مرضية لكلا البلدين، أو اللجوء إلى القضاء الدولي كالتحكيم أو محكمة العدل الدولية.

وأخيراً، من الممكن أن يؤدي التغير المناخي إلى عواقب درامية لا يمكن التنبؤ بها، قد تدفع الدول إلى النزاع على الحدود؛ لذلك يجب على البِلدان الاتفاق حول المبادئ والقواعد المتعلقة بالحدود الطبيعية والتنسيق فيما بينها، والاستفادة من حالات ترسيم الحدود المتحركة السابقة للتعامل مع التحديات المناخية المستقبلية.