في الوقت الذي تهدد فيه التغيرات المناخية المهن التقليدية التي يعتمد عليها سكان المناطق الساحلية، لجأ العديد منهم إلى أساليب جديدة تنقذهم من براثن الفقر.
وتخرج هندو سيماي راجبو السيدة التي تقيم في جزيرة زنجبار، يومياً في اتجاه بحيرة ساحلية تقع قبالة سواحل تنزانيا، مرتدية أنبوب تنفس ونظارة واقية.
ومع ارتفاع أمواج المحيط الهندي، تقرر راجبو الهبوط تحت سطح المياه، حتى تصل إلى مزرعة للإسفنج البحري لتبدأ في إزالة البكتيريا المختبئة داخل القطع الوليدة التي تواجه خطر النفوق، لتتأكد من سلامته وعدم تعرضه للتلف بفعل القوارب السريعة.
وتستغرق راجبو في رعاية المزرعة نحو 4 ساعات يومياً، قبل أن تعود مجدداً لتبدأ عمليات فرز الإسفنج المجفف، ووضع الملصقات الخاصة به، استعداداً لعملية البيع.
أزمات اجتماعية
وراجبو البالغة من العمر 31 عاماً، هي واحدة من 13 سيدة في قرية جامبياني بزنجبار – وهي جزيرة تتمتع بحكم شبه ذاتي في تنزانيا – بدأن العمل في استزراع الإسفنج البحري الذي يتمتع بدرجة أكبر على مقاومة الظروف المناخية.
ويتقاسم هؤلاء النساء أيضاً في أن جميعهن من المطلقات أو ممن أجبرتهن الظروف على رعاية الأطفال دون عائل.
وراجبو لم تكمل تعليمها بسبب عجز أهلها عن دفع تكاليف دراستها ليضيع حلمها بأن تصبح طبيبة، كما استمرت معاناتها بعد الطلاق من زوجها وتركها لتعول أبناءهما وحدها.
والعديد من نساء القرية اعتدن العمل في قطاع الأعشاب البحرية، لكن ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى تراجع الإنتاج، وأثر سلباً على مصدر الدخل؛ إذ اقتصر دخل السيدة الثلاثينية على ما يعادل 28 دولاراً شهرياً فحسب.
وبين عامي 2002 و2012، تراجع الإنتاج بفارق 47٪ بفعل عدة عوامل، من بينها التغيرات المناخية، وتراجع أعداد العاملين في القطاع بسبب انخفاض الأسعار؛ ما أدى بدوره إلى التحول للعمل في مجال الإسفنج البحري.
وتُصنف الإسفنجيات، التي تتخطى أنواعها 15 ألف نوع، ضمن الحيوانات البحرية، لكنها تنمو وتتكاثر وتعيش على طريقة النباتات، وتتكون من طبقة تشبه الصدف، كما تمتلئ بمسام تسمح للمياه بالتدفق من خلالها.
ويرجح أن يكون الإسفنج هو أول الحيوانات التي وجدت على الأرض، ويعود تاريخها إلى أكثر من 600 مليون سنة، وفق موقع "بي بي سي".
مزايا مناخية
وتقول عزيزة سعيد عالمة الأحياء البحرية في جامعة دودوما بتنزانيا، إن الإسفنج يتمتع بمرونة أكبر في مواجهة الطقس الحار، كما يحتاج إلى درجة أقل من الرعاية، ويفوق سعره الأعشاب البحرية، كما يعمل على إثراء قاع البحر من خلال الأحماض الأمينية والدهنية التي يطلقها وتمتصها الكائنات الدقيقة.
وانضم قطاع الإسفنج البحري إلى محاولات تقليل الضغط على الموارد الطبيعية، والمساهمة في حماية البيئة، باعتباره بديلاً عن صيد الأسماك.
وكشفت دراسة نشرتها دورية Nature Geoscience عن دور الإسفنج في مواجهة التغير المناخي؛ إذ تتحلل هياكله إلى جزيئات دقيقة من السليكون؛ ما يساهم في التحكم في دورة الكربون في المحيط، وخفض آثار الغازات الدفيئة.
كما يلعب السليكون المتحلل في المياه دوراً هاماً في نمو طحالب الدياتومات، التي تمتص كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون من خلال عملية التمثيل الضوئي، وعندما تنفق هذه الطحالب تصل أصدافها إلى القاع وتواصل دورها في امتصاص الكربون.
وتساهم الإسفنجيات البحرية في تنقية مياه البحر؛ إذ يمكن لقطعة واحدة منه أن تضخ آلاف اللترات من المياه يومياً، من خلال متاهة من القنوات والفتحات المسامية؛ ما يعمل على احتجاز الملوثات والمواد العضوية، وفق دراسة لجامعة "فاخينينغن" الهولندية.
لمواجهة الفقر
في عام 2009، أسست Marine Cultures – وهي منظمة سويسرية غير ربحية – مزرعة للإسفنج في زنجبار كمحاولة لتحسين دخل الفقيرات، والمساهمة كذلك في حماية الموارد الطبيعية للمنطقة، وتمكنت خلال السنوات الماضية من تدريب 13 سيدة، بينهن راجبو التي تخرج يومياً لرعاية المزرعة.
تقول راجبو في حديثها لموقع بي بي سي: "أعمل بلا كلل لكي أحصل على المال ويتمكن أطفالي من الحصول على تعليم أفضل. أريد أن أكسر دائرة الإهمال والفقر التي عانيت منها".
وأضافت: "خلال عامين من العمل تمكنت من شراء قطعة أرض وبناء منزل مكون من 3 غرف لي ولأبنائي".
ومن جانبه، قال علي محمود علي، الذي يدير المزرعة: "ندرب الصيادين لمدة عام كامل؛ للتأكد من أن لديهم المهارات الأساسية والمعرفة التي تمكنهم من التكيف مع ظروف البحر المتغيرة".
وتابع: "يشمل الأمر أيضاً تدريب النساء على السباحة، والغوص باستخدام الأدوات المخصصة لذلك، وكيفية الاهتمام بالإسفنج، إضافة إلى جوانب التسويق والأمور المالية، والاستعداد للبيع".
ويتراوح سعر الإسفنجة الواحدة بين 15 و30 دولاراً، بناء على الحجم والجودة، وعادةً ما يجد رواجاً في الفنادق ومتاجر الهدايا.
ويتلقى صائدو الإسفنج نحو 70٪ من العائدات، بينما يذهب 29٪ إلى المتاجر، والـ1٪ المتبقية إلى الجمعية التعاونية للعاملين في استزراع الإسفنج بزنجبار، وهي جمعية تشرف على تشغيل الصيادين وعمليات الإنتاج.
ويرى مدير الجمعية ناصر حسان حاج، أن هذا القطاع ساهم في إعادة تشكيل الأدوار الجندرية داخل القرية، في وقت تفرض فيها التقاليد على النساء اقتصار دورهن على رعاية الأطفال، والقيام بالأعمال المنزلية.
تحديات جديدة
على جانب آخر، تتصاعد مخاوف حيال الجمع المفرط للإسفنج الطبيعي من مياه المحيطات، في الوقت الذي تناله كذلك تأثيرات الموجات البحرية الحارة، كما أن هناك تحديات أمام فكرة توسيع النشاط.
ويشير كريستيان فاترلاوس مؤسس جمعية Marine Cultures إلى احتياج كل صائد من 1000 إلى 1500 إسفنجة، ليتمكنوا من امتلاك مخزون يُمكِّنهم من وفرة الإنتاج؛ ما يهدد بتناقص أعداده.
وأوضح فاترلاوس: "هناك تحدًٍ آخر يتمثل في توافر الإسفنج الصناعي على نطاق واسع بأسعار رخيصة، بينما يصل سعر نظيره الطبيعي إلى 30 دولاراً لقطعة الإسفنج الواحدة، كما تستغرق عملية الاستزراع وقتاً طويلاً؛ إذ لا بد للصيادين من انتظار عام كامل لكي يصل الإسفنج إلى مرحلة النضوج، كما يعتمد بشدة على توافر البذور الطبيعية".
لكن ليونارد شوكا العالم في معهد علوم البحار بجامعة دار السلام بتنزانيا، يرى أنه يمكن مواجهة تلك المشكلة بتعزيز الوعي بخطورة استخدام المنتجات البلاستيكية، وهو ما سيعزز الإقبال على الإسفنج البحري، ويعتقد أن جهود الأبحاث تحتاج أن تركز على تطوير أنواع إسفنجية متنوعة وعالية الجودة.
ويمتد سوق الإسفنج البحري خارج زنجبار في مناطق مختلفة حول العالم، بما في ذلك منطقة البحر المتوسط، كما يمثل بديلاً طبيعياً للإسفنج الصناعي الذي يستخدم على نطاق واسع في المنازل، ويحتوي على جزيئات بلاستيكية.