المدن المستدامة.. مقاومة عمرانية ضد قسوة التغيرات المناخية


سلمى عرفة
السبت 16 سبتمبر 2023 | 08:37 مساءً
مدن مقاومة
مدن مقاومة

في محاولة لتصميم مناطق سكنية يمكنها الصمود في مواجهة الكوارث المناخية، يبحث العالم عن تقليل مخاطر الأعاصير والفيضانات، وتمكين الفئات المهمشة من الحياة في تلك المناطق المُحصنة.

ومؤخراً خلَّف إعصار دانيال المدمر نحو 20 ألف قتيل في مدينة درنة الليبية وحدها، فيما أودى إعصار إيان بحياة 150 شخصاً وخلف خسائر تقدر بـ112 مليار دولار في الساحل الجنوبي الغربي من ولاية فلوريدا الأمريكية خلال العام الماضي.

ورغم قسوة الظواهر المناخية نجحت بعض المناطق السكنية في الصمود، مثل مدينة بابكوك رانش (تمتد على مساحة 18 ألف فدان جنوب غرب فلوريدا) التي جرى تصميمها لمقاومة العواصف العاتية، وخرجت بالفعل من إعصار إيان دون أن تمس بسوء تقريباً.

وبات بناء مناطق قادرة على التكيف مع أزمة المناخ، قضية في غاية الأهمية بولاية فلوريدا الأمريكية، التي يمتد موسم الأعاصير بها إلى نحو 6 أشهر سنوياً.

والانفجار السكاني بالولايات المتحدة ومشروعات الإسكان التي جرى تنفيذها خلال القرن الماضي، أدت إلى تفاقم الخطر؛ إذ أقيم أغلبها فوق الأراضي الرطبة التي تعمل على منع الفيضانات بصورة طبيعية.

مقاومة للكوارث

وضربت مدينة بابكوك رانش الأمريكية، مثالاً على الصمود ضد الكوارث المناخية؛ إذ ضمت أعشاباً خضراء، وملاعب تشع بالحياة، ومسارات غابية، وموقع لمراقبة الطيور، ومسارات لقيادة الدراجات، وعربات تعمل بالطاقة الشمسية، وحمامات السباحة، وبحيرات يطفو فوق مياهها القوارب، كما تعتمد في ذلك على مزرعة ألواح شمسية تمتد على مساحة 870 فداناً.

وهذه التصميمات الجمالية لها غرض مزدوج؛ حيث تعمل البحيرات باعتبارها برك احتجاز لحماية المنازل من الفيضانات، كما جرى تصميم الشوارع لامتصاص المياه الزائدة التي تجلبها الأمطار، علاوة على تعزيز مقر المركز الاجتماعي ليتحول إلى ملجأ عند هبوب العواصف.

كان إعصار إيان في سبتمبر 2022، هو أول اختبار مناخي للمدينة الأمريكية؛ حيث تمكنت من النجاة تماماً باستثناء سقوط بعض اللافتات وأشجار النخيل.

فيما لم تشهد المدينة انقطاعاً للتيار الكهربائي أو خدمات الإنترنت، أو المياه النظيفة عن أي من المنازل، بل فتحت أبوابها لسكان المناطق المجاورة الذين خسروا منازلهم، وحولت قاعة رياضية إلى ملجأ طوارئ.

مجتمعات مستدامة

واستغرق بناء بابكوك رانش، سنوات من التخطيط والتصميم الدقيق؛ إذ استعان الفريق بخرائط تعود إلى فترة الأربعينيات من القرن الماضي، لاكتشاف المسارات الطبيعية الأصلية للتدفق على اليابسة، ومعرفة خط سير المياه خلال فترات هطول الأمطار الغزيرة.

وعلى مدى عقود طويلة، خضعت تلك المسارات لتغييرات من أجل الزراعة، والتطوير العمراني، وغيرهما من الأغراض البشرية، لكن القائمين على المشروع عملوا على اكتشاف المسارات الطبيعية، وتجنبوا البناء عليها.

الأراضي الرطبةواستهدف هذا الإجراء الحفاظ على الأراضي الرطبة التي تمتص وتحتجز مياه الأمطار، قبل أن تحمل تلك المسارات المياه الفائضة إلى نهر كالوزاتشي، ومن ثم يمكنها منع الفيضانات.

كما يعد الموقع عاملاً آخر هاماً في بناء المدن المقاومة؛ حيث تقع مدينة بانكوك رانش على بعد 45 دقيقة بالسيارة من شواطئ الجزيرة التي تعمل حاجزاً طبيعياً في مواجهة العواصف، كما بُنيت المنطقة على ارتفاع 30 قدماً؛ أي ما يتجاوز 9 أمتار فوق مستوى سطح البحر.

وخلال عملية البناء، قام المطورون بدفن خطوط الكهرباء، وبناء محطة المياه الخاصة بالمدينة؛ ما يعني أنها كانت الوحيدة في المنطقة التي لم تتلق تحذيراً بضرورة غلي المياه، وهو التحذير الذي يجري إطلاقه عند رصد تلوث في نظام إمدادات المياه.

ولم يكن نظام إدارة مياه العواصف وحده، هو الذي ساهم في صمود المدينة، لكن الشبكة التي تعمل بالطاقة الشمسية وتقترب طاقتها من 75 ميغاواط، ونظام الطاقة الاحتياطي، منعا من انقطاع الكهرباء، في وقت غرقت فيه مقاطعة شارلوت التي تتبعها المنطقة في الظلام.

وشهدت السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة ظهور المزيد من المجتمعات التي تعمل على مقاومة التغيرات المناخية، من الجفاف، وارتفاع مستوى سطح البحر، وتآكل الشواطئ، وحرائق الغابات. وتنتشر تلك المشروعات في مناطق مختلفة؛ منها ولايات يوتا، وفلوريدا، ولويزيانا.

آثار مدمرة تسببها الأعاصيرالفئات المهمشة

وفي غمار هذا التطور العمراني، لفتت جينيسون كيب الباحثة في مركز كفاءة استخدام الأراضي التابع لجامعة فلوريدا، إلى التفاوت بين المجتمعات التي تمتلك موارد للتكيف مع التغير المناخي، وبين نظيرتها التي لا تملك هذه الموارد.

وقالت: "علينا تحديد كيف يمكننا إيجاد توازن بين إنشاء مشروعات التطوير، وتمكين الطبقات المتوسطة من الوصول إلى تلك المناطق المخططة بإتقان".

وحذرت كيب من تفاقم هذا التفاوت في مواجهة أزمة المناخ، واصفة بناء مجتمعات جديدة في الوقت الذي تفتقر المجتمعات الموجودة بالفعل إلى أساسيات الحماية بالأمر "غير الأخلاقي".

آثار الأعاصيرفيما قالت جوان بيرودين مسؤولة المساواة المناخية في معهد كليو (أمريكي غير ربحي، مهتم برفع الوعي حول أزمة المناخ) إن القدرة على الشراء تمثل عاملاً أساسياً يمنع ذوي الدخول المنخفضة من الوصول إلى الحياة في هذه المجتمعات.

وأوضحت بيرودين أن تحقيق الاستدامة يتطلب توفير فئات مختلفة من الأسعار، لا سيما أن نظام العقارات لا زال موجهاً نحو الأثرياء.

وبغض النظر عن نظام التسعير الذي تتبعه الشركات العقارية، ترى بيرودين أن معدلات الفوائد المطبقة على القروض العقارية تقلل من فرص الفئات المنخفضة الدخل في هذه السوق.