تعود صناعة العطور الى قرون بعيدة، تطورت خلالها حتى وصلت الى طريقة إنتاجها الحالية، والتي باتت تثير الكثير من المخاوف البيئية بسبب المواد الخام وطرق التصنيع والتعبئة والتغليف وصولا إلى التخلص من النفايات.
كيف تؤثر صناعة العطر على البيئة؟
غالبًا ما تحتوي العطور التقليدية على مواد كيميائية وعطور صناعية، وكثير منها مشتق من البتروكيماويات التي تضر البيئة والبشرة، ويمكن لهذه المواد الكيميائية إطلاق مركبات عضوية متطايرة تساهم في تلوث الهواء، وفقا لدراسة أجرتها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)
ويتطلب تصنيع العطور في كثير من الأحيان عمليات كثيفة الاستهلاك للطاقة والمياه، مما قد يؤدي إلى إجهاد الموارد المحلية والمساهمة في تدهور الموارد، بالإضافة إلى طرق التغليف التي تعتمد على الصناديق باهظة الثمن والمكونات البلاستيكية الضارة.
كما يشكل التخلص غير الصحيح من العطور مشكلة كبيرة لأن المواد الكيميائية قد تتسرب إلى التربة وأنظمة المياه، وتؤكد الجمعية الكيميائية الأمريكية أن الملوثات الناتجة عن منتجات العناية الشخصية، بما في ذلك العطور، يمكن أن تؤدي إلى تأثيرات سلبية على الحياة البرية والمائية.
وبعيدًا عن التهديدات البيئية، يمكن للعطور أن تشكل مخاطر صحية وخاصة للأشخاص الذين يعانون من الحساسية؛ فقد تسبب المكونات الموجودة في العديد من العطور تهيج الجلد .
العطور المستدامة
عبر تاريخ صناعة العطور كانت هناك دائما اتهامات باستغلال موارد البيئة، لذلك بدأت بعض شركات العطور في اتخاذ حلول صديقة للبيئة.
وظهرت العطور العضوية والمستدامة، التي تعتمد على الزيوت العطرية الطبيعية والمكونات العضوية مثل الورود والزيوت العضوية التي تشجع الزراعة المستدامة والعضوية، الخالية من المبيدات والمواد الكيماوية الضارة، من أجل حماية الموارد البيئية على المدى الطويل.
وتحولت الشركات نحو التعبئة المستدامة وطرق تغليف اقل ضررا بالبيئة مثل الزجاجات القابلة لإعادة التعبئة، والمواد القابلة للتحلل البيولوجي، والبعد عن البلاستيك لتقليل النفايات واعادة تدوير العبوات الفارغة بشكل مفيد.
وعملت كبرى العلامات التجارية على اعتماد معايير الاستدامة في صناعة العطور، ومنها علامة ستيلا مكارتني، والتي طورت سبعة عطور نباتية طبيعية 100%
العطور المخبرية المستدامة
من أهم الصعوبات التي تواجه صناعة العطور المستدامة هي تأمين المصادر الطبيعية والعضوية بأسعار جيدة، لذلك قد تعتبر بعض الابتكارات العلمية المصنوعة في المختبرات الجامعية بمثابة ثورة في صناعة العطور، لأنها تنتج مواد عطرية متاحة ومنخفضة التكلفة وتكافح التحديات البيئية الملحة في العالم.
وفي هذا الإطار، نستعرض تجربتين تمكنتا من اعتماد طرق جديدة وخارجة عن النطاق المألوف:
ابتكار جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية السعودية
حققت رائحة العود الخشبية المميزة شهرة كبيرة في العالم العربي كقاعدة للعطور الكلاسيكية، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالهوية الثقافية ، لذلك تعتبر من المكونات الأكثر مبيعًا في سوق العطور العربية والعالمية.
تعد الرائحة الأصيلة المستمدة من الراتنج العطرى لخشب العود مورد متناقص ومكلف بشكل متزايد، مما يعرض بعض أنواع الأشجار لخطر الانقراض بسبب الإفراط في الحصاد وإزالة الغابات، لذلك تم حظر منتجات العود في العديد من البلدان.
منذ عدة أشهر، نجح العلماء في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST) في المملكة العربية السعودية في تطوير بديلاً مستدامًا لخشب العود البري، باستخدام الطحالب المعدلة جينيا، مع تطبيق مبادئ الكيمياء الخضراء لإنتاج نسخة اصطناعية من رائحة العود
وقد فحص العلماء بالجامعة 58 عينة من خشب العود لفهم بنيته الكيميائية، وتمكنوا من تحديد تسع مواد كيميائية أساسية يمكن إعادة إنتاجها بواسطة الطحالب المعدلة وراثيًا، من أجل الحصول على اساس رائحة العود المعقدة.
ويعمل فريق الجامعة على توسيع نطاق العملية لصنع العطر الاصطناعي بكميات كافية يستخدمها صانعو العطور، وبطريقة تضمن استقبال رائحة العود الصناعي بشكل جيد في الأسواق، باعتبارها عملية بسيطة ومنخفضة التكلفة تقدم بديل مستدام يحمي الأشجار وموارد البيئة لصناعة تعتمد بشكل كبير على الموارد الطبيعية المتناقصة.
ابتكار جامعة أدنبرة البريطانية
نجح علماء بجامعة أدنبرة في استخلاص مادة كيميائية برائحة الصنوبر يمكن اعتمادها كمكون أولى في صناعة العطور، ويصف البعض التكنولوجيا المستخدمة في إجراء هذه العملية بأنها ثورة صناعية جديدة، كما أن نجاح هذه التجربة يقدم خدمة كبيرة للبيئة لأنه يفيد في إعادة تدوير النفايات وجعل المستقبل أكثر استدامة.
وقد تمكن العلماء عبر اعتماد مجال الهندسة الحيوية من تطوير طريقة لتطهير مجاري الصرف الصحي من الكتل الدهنية الضخمة، واستغلالها في إنتاج عطور ذات رائحة طيبة .
تتكون الكتل الدهنية من النفايات الصلبة المتجمدة في المجاري مثل المناديل المبللة والكتل المتراكمة من الدهون ونفايات الطعام التي يلقيها الناس في مجاري الصرف الصحي، والتي تكون كتل ضخمة يمكن أن تتسبب في انسداد المصارف.
وقد ابتكر البروفيسور ستيفن والاس، أستاذ بجامعة إدنبرة، طريقة جديدة لإزالة الانسدادات من المصارف وتحويلها إلى مادة كيميائية برائحة عطرة عبر عدة خطوات، وفقا لموقع vice
في البداية، يحصل البروفيسور والاس على كتلة الدهون من شركة متخصصة في استخراج هذه الكتل من مجاري الصرف الصحي، وتحويلها إلى وقود حيوي، حيث تصل هذه الكتل إلى المختبر عبر أنابيب معقمة.
وخلال الخطوة الثانية يقوم البروفيسور والاس بتعقيم المادة في جهاز بخاري، ثم إضافة سلالة خاصة من البكتيريا المعدلة وراثيًا، والتي تعمل على تفتيت كتلة الدهون، حتى يختفي الجبل الدهني تدريجيا، مما ينتج عنه مادة كيميائية ذات رائحة تشبة رائحة الصنوبر، يمكن استخدامها كمكون في العطور
ويوضح البروفيسور والاس أن البكتيريا تحب الدهون، ولذلك قام بإعادة برمجة البكتيريا لتأكل الدهون المتراكمة في الكتل الدهنية، وتحويلها إلى شيء مفيد.
ورغم أن هذه الطريقة لم تصبح مجدية تجارياً بعد، لكن البروفيسور والاس يعمل مع شركتين للعطور مهتمين بهذه العملية لأنها أكثر استدامة من الطريقة التقليدية التي تنطوي على مواد كيميائية مستخرجة من الوقود الأحفوري
ويعلق البروفيسور والاس في حديثه مع موقع vice، قائلا إنها تبدو فكرة مجنونة، ولكنها ناجحة في تعويض تكلفة تنظيف المجاري وصناعة عطور صديقة للبيئة، وبذلك تمثل حلاً مهما لأزمة المناخ وخلق مستقبل أكثر استدامة للأجيال القادمة.