من أول الدروس التي تلقيناها في حصص العلوم بالمدرسة؛ هي أن الاوراق الخضراء تمتص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، لتستخدمه فى إنتاج الغذاء ثم تطلق الأكسجين الذي يتنفسه الإنسان.. لكن يبدو أن تلك القاعدة التي نحفظها جميعاً عن ظهر قلب باتت مهددة بفعل التغير المناخي.
عملية امتصاص الكربون
تؤدي الأنشطة البشرية إلى إنتاج الكربون، والذي يتراكم في الغلاف الجوي ويساهم في تغيير المناخ، ولكن من حسن الحظ أننا نحصل على مساعدة الطبيعة من حولنا، حيث تمتص الغابات والمراعي والتربة قدراً كبيراً من الكربون الموجود في الغلاف الجوي، ما يساعد على تنظيم مناخ الكوكب.
وتعد عملية امتصاص الكربون واحدة من آلاف العمليات الطبيعية التي تنظم مناخ الأرض، حيث تمتص المحيطات والغابات والتربة ومصارف الكربون الطبيعية الأخرى نحو نصف الانبعاثات البشرية.
وعلى مدى آلاف السنين ظل المناخ في حالة من التوازن، وقد سمحت أنماط الطقس المستقرة بتطوير الزراعة الحديثة، ومع ارتفاع الانبعاثات البشرية، زادت الكمية التي تمتصها الطبيعة أيضاً، لأن زيادة معدل ثاني أكسيد الكربون قد يعني نمو النباتات بشكل أسرع، وتخزين المزيد من الكربون، لكن هذا التوازن بدأ يختل بسبب الاحترار واستمرار توسع العمل الزراعي، ما يثير قلق العلماء من انهيار هذه العمليات الحيوية المهمة.
ما الذي حدث في 2023
أظهرت نتائج دراسة حديثة، توصل إليها فريق دولي من الباحثين، أن كمية الكربون التي تمتصها الأرض قد انهارت، لأن الغابات والنباتات والتربة لم تمتص أي قدر من الكربون تقريباً.
وخلال فعاليات أسبوع المناخ، الذي انعقد في مدينة نيويورك في شهر سبتمبر الماضي، حذر مدير معهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ، يوهان روكستروم، من الاتجاه المقلق الذي تسير نحوه البشرية، حيث يشهد العالم تصدعات في مرونة أنظمة الأرض؛ وتفقد النظم الإيكولوجية مخزونها من الكربون وقدرتها على امتصاصه؛ ففي الماضي مد هذا الكوكب المجهد يد العون للبشرية في صمت، وقد نجحت الطبيعة في تحقيق التوازن حتى وقت قريب لكن هذا الأمر أوشك على الانتهاء.
في عام 2023، العام الأكثر سخونة على الإطلاق، وصلت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية إلى مستوى قياسي جديد بلغ 37.4 مليار طن، وقد شكلت انبعاثات الفحم أكثر من 65% من هذه الزيادة، وفقاً لتقرير الوكالة الدولية للطاقة IEA.
ويرى الخبراء أن هذا الانهيار السريع لخزانات الكربون الأرضية عام 2023 كان مفاجئاً، ولم يتوقع حدوثه في أغلب نماذج المناخ، وإذا استمر هذا الانهيار، فمن المحتمل أن تخرج الأمور عن السيطرة، وترتفع درجة حرارة الأرض بسرعة تتجاوز ما تتوقعه النماذج المناخية.
لماذا توقفت النباتات عن امتصاص الكربون؟
في يوليو الماضي، وجدت دراسة بحثية أن إجمالي كمية الكربون التي امتصتها الغابات بين عامي 1990 و2019 كانت ثابتة، لكنها اختلفت بشكل كبير حسب المنطقة، حيث شهدت الغابات الشمالية، التي تمتد عبر روسيا وكندا، ومنطقتي إسكندنافيا وألاسكا، وتضم نحو ثلث إجمالي الكربون الموجود على الأرض، انخفاضاً حاداً في كمية الكربون التي تُمتص وتُخزن بنسبة تزيد على الثلث، بسبب تأثيرات مرتبطة بأزمة المناخ والحرائق وإزالة الغابات للحصول على الأخشاب.
كما تراجعت قدرة غابات الأمازون على الصمود أمام ظروف الجفاف، التي تضرب أجزاءً من المناطق الاستوائية، أما خلال عام 2023 فقد ساهمت موجات الاحترار داخل الغابات الشمالية في انهيار خزان الكربون الأرضي؛ ما تسبب في ارتفاع معدل الكربون في الغلاف الجوي.
في حديثه إلى صحيفة الجارديان البريطانية، أشار فيليب سياس الباحث في المختبر الفرنسي لعلوم المناخ والبيئة وأحد مؤلفي الورقة البحثية الأخيرة، إلى زيادة معدلات تراكم ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بشدة العام الماضي، ما يعني أن الغلاف الحيوي الأرضي قد امتص كمية منخفضة للغاية.
وأوضح الباحث الفرنسي أنه من المفترض أن يمتص الغلاف الحيوي الأرضي أكثر من نصف كمية ثاني أكسيد الكربون داخل النصف الشمالي من الكرة الأرضية، لكن هذه الكمية تقل بشكل تدريجي منذ 8 سنوات.
هل يمكن للكوكب أن يتعافى في المستقبل؟
رغم أن الأرقام الأولية للانبعاثات الكربونية وامتصاصها خلال عام 2023 تثير القلق، يتوقع الخبراء أن يكون انهيار خزان الكربون الأرضي العام الماضي "مؤقتًا"، وفي حال انخفضت الضغوط المناخية مثل الجفاف وحرائق الغابات والأحداث المناخية المتطرفة، ستعود الأرض إلى امتصاص الكربون مرة أخرى، حسب صحيفة الجارديان.
يشير انهيار خزان الكربون إلى هشاشة الأنظمة البيئية، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة في أزمة المناخ، حيث يؤكد العلماء أن الوصول إلى "صفر الانبعاثات الصافي" أمر مستحيل دون مساعدة بالوعات الكربون الطبيعية؛ فالغابات الشاسعة والمراعي والمستنقعات والمحيطات هي الخيار الأمثل لامتصاص تلوث الكربون البشري.