طوارئ عالمية جديدة أعلنت عنها منظمة الصحة العالمية، تحت وطأة انتشار مرض جدري القرود في عدة دول، فيما يمثل أعلى مستوى تحذير يمكن أن تطلقه المنظمة الدولية.
إعلان الطوارئ لهذا السبب ليس الأول؛ إذ شهدت الفترة من مايو 2022 حتى منتصف 2023، انتشار مرض جدري القردة بسبب سلالة تعرف باسم "الفرع الحيوي الثاني (ب)"، وأعلنت المنظمة عن وجود طارئة صحية عامة أثارت قلقاً دولياً.
لكن المثير حينها كان تزايد أعداد حالات الإصابة بفيروس جدري القرود في بلدان ليس لديها تاريخ مع المرض، أو لم يوجد بها من قبل؛ حيث ظهرت فاشية جدري القردة فجأة وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء أوروبا والأمريكتين ومناطق أخرى، وأبلغت 110 دول عن قرابة 87 ألف حالة إصابة و112 حالة وفاة، وكانت معظم الحالات المؤكدة لم تسافر إلى مناطق موبوءة سواء غرب أو وسط أفريقيا، لكنهم أبلغوا عن السفر إلى دول أوروبية؛ ما كان يعتبر أمراً غير معتاد.
في مايو 2023، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الجدري لم يعد حالة طوارئ صحية عامة، مع الانخفاض الكبير في الحالات المبلغ عنها، وعدم حدوث تغيرات في شدة المرض والأعراض السريرية.
منظمة الصحة العالمية
لكن بعد نحو 15 شهراً عادت حالة الطوارئ الصحية من جديد، بعد تسجيل أولى الإصابات بالسلالة الأحدث من فيروس جدري القرود من الفرع الحيوي الأول (أ) خارج إفريقيا، القارة التي ظهرت بها أول حالة إصابة بشرية بالمرض عام 1970 في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
جدري القرود والتغير المناخي
تاريخ فيروس جدري القردة "إمبوكس"، والانتقال من حالة الانتشار ثم السيطرة عليه الى الظهور مرة أخرى، طرح تساؤلاً يظنه المتخصصون اليوم بديهياً؛ لماذا بعد مرور أكثر من 50 عامًا على اكتشاف المرض وانتقاله للبشر يتفشى الفيروس مع القلق من تحوله إلى وباء عالمي، فهل يرتبط جدري القرود بالتغير المناخي الذي توحش مؤخراً وبات يؤثر على كل شيء في الكوكب؟ وما شكل هذا الارتباط؟
تبدو الإجابة معقدة، لكن مسؤولي منظمة الصحة العالمية يقولون إن هناك صلة واضحة بين المرض وأزمة المناخ، التي أدت إلى تقلص المساحة الفاصلة بين المجتمعات البشرية وموائل الحياة البرية، بسبب الجفاف وفقدان الموائل الطبيعية والضغوط الأخرى، حسب ما نشره موقع "sustainability times".
وذكر الدكتور مايك ريان، المدير التنفيذي لبرنامج منظمة الصحة العالمية للطوارئ الصحية، إن الأرض تتعامل مع مستويات متزايدة من الهشاشة البيئية والإجهاد المناخي، مما يغير من سلوك الحيوانات والبشر على حد سواء.
وأضاف خلال مناقشة أجرتها منظمة الصحة العالمية حول ملفات الصحة بالعالم، أن كل ما يواجهه الكوكب يدفع إلى تغيير سلوك الحيوانات في بحثها عن الغذاء والأنشطة الحياتية الأخرى، مما يغير نطاق تواجدها المعتاد، وبالتالي يحدث التفاعل بين الحيوان والإنسان، ومع تزايد عدد مرات التفاعل أو الاحتكاك تتزايد الأمراض التي تنتقل إلى الإنسان وتعبر الى المجتمعات البشرية.
دكتور مايك ريان
ويوضح المدير التنفيذي لبرنامج منظمة الصحة العالمية للطوارئ الصحية، أن عوامل ظهور الأمراض وانتشارها قد زادت، ولا يقتصر الأمر على جدري القرود فقط، بل نفس الشيء ينطبق على أمراض أخرى مثل أنفلونزا الطيور، تلك السلالة التي ظهرت نتيجة التفاعل بين الطيور والإنسان، وأيضا وتيرة سرعة انتشار الأوبئة قد باتت أسرع؛ في الماضي كان يمر ثلاث أو خمس سنوات حتى يتفشى فيروس إيبولا مثلاً، أما الآن، فالأمر قد يحدث في ثلاثة أو خمسة أشهر فقط.
جدري القرود وعلاقته بالسلوك البشري
تشير مؤسسة (CDC) للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، التابعة لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن المصدر الحيواني الدقيق لعدوى جدري القرود لا يزال غير واضحاً، لكنه مرتبط بالقوارض والرئيسيات غير البشرية، مثل القرود، وقد يكون السلوك البشري هو السبب وراء انتشار المرض، لكن هذا لا يفسر أصوله.
نمط الحياة التي يعيشها الإنسان يساهم في تفشي الأمراض بشكل سريع، بسبب استغلال الموارد بشكل سيء، وإتلاف الموائل، يصنع البشر بيئة ملائمة لظهور الأوبئة والعدوى التي يُعتقد أنها انتقلت من الحيوان إلى الإنسان.
ووفقاً لتقرير حديث صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، 60% من الأمراض المعدية المعروفة و75% من الأمراض المعدية الناشئة هي أمراض حيوانية المنشأ، وهو المرض أو العدوى التي تنتقل من الحيوان إلى الإنسان والتي تسببها الفيروسات أو البكتيريا أو الحيوانات الطفيلية.
مرض جدري القرود
وهناك مليوني شخص في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل يفقدون حياتهم كل عام بسبب أمراض حيوانية مستوطنة مهملة، وفي كثير من الأحيان تعاني هذه المجتمعات من مشاكل إنمائية واعتماد كبير على الماشية، والقرب من الحياة البرية.
ويذكر التقرير الأممي أن توسع النشاط البشري يتحمل المسؤولية إلى حد كبير، بسبب تكثيف الممارسات الزراعية وتوسيع البنية التحتية واستخراج الموارد على حساب المساحات البرية، بالاضافة إلى أن التدهور البيئي ينتج عنه ظهور أمراض جديدة لا يستطيع النظام الإيكولوجي الصمود أمامها، كما أن التغير المناخي يساهم في انتشار مسببات الأمراض حول العالم
وعلى سبيل المثال، منذ عام 1990، تم ازالة حوالي مليار فدان من الغابات لإفساح المجال لاستخدامات أخرى، ولقد أدت إزالة هذه الغابات والنمو السكاني وتجارة الحياة البرية إلى إزالة الحدود بين المكان الذي يعيش فيه البشر والحيوانات البرية، مما جعلهم على اتصال وثيق، والنتيجة النهائية هي أن البشر والحيوانات، مع الأمراض التي يحملها كلا منهما، أصبحا أقرب من أي وقت مضى.
ازالة الغابات
يتوقع بعض الباحثين أن الوباء القادم، والذي يطلق عليه "إكس"، سيكون حيواني المنشأ مدفوعاً بأسباب بيئية تتعلق بتنامي العلاقة والاحتكاك بين الحيوان والإنسان، لذلك علينا أن نستثمر أكثر في إنهاء الاستغلال المفرط للحياة البرية وحماية صحة النظام البيئي، وان نتعلم من الدروس السابقة، مثل "الكوفيد" وجدري القرود.
كما يتعين علينا أن نصبح أكثر استباقية في مواجهة الأزمات ومعالجة الأمراض الحيوانية المستوطنة لتجنب حدوث جائحة جديدة، وأخيرا علينا الاعتراف بأنه لا يمكن الفصل بين صحة الإنسان وصحة الحيوان وصحة الكوكب، فلا يمكن الحفاظ على أيا منهم دون الأخرى.