حازت لقطة بطلة الجمباز الصينية زو ياكين على إعجاب متابعي مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن تعلَّمت البطلة الصغيرة لأول مرة حركة عض الميدالية التي يُشتهَر بها الفائزون على منصة التتويج.
انتبهت "زو" إلى صاحبة الميدالية الذهبية وهي تعض ميداليتها، وقامت بتقليدها على الفور بصورة لطيفة وعفوية؛ ما جذب جمهور الأولمبياد، لكنه في الوقت نفسه يُعِيد قصة تصنيع الميداليات الأوليمبية من المعادن الثمينة وتأثير التعدين على البيئة.
الميداليات الأوليمبية
قصة الميداليات الأولمبية
بدأ اعتماد نظام الميداليات الأولمبية التقليدية؛ الذهبية والفضية والبرونزية، خلال دورة ألعاب 1904، وكانت الميداليات الذهبية مصنوعة من الذهب الخالص؛ نظراً إلى انخفاض سعره قبل الحرب العالمية الأولى، وظل هذا التقليد حتى أولمبياد 1920.
الميداليات الأوليمبية
حينها باتت الميدالية الذهبية تُصنَع من الفضة المطلية بطبقة من الذهب، وتتكون من 92.5% من الفضة مع 6 جرامات من الذهب على الأقل، وكان السبب وراء ذلك يتعلق بالتكلفة وطبيعة معدن الذهب الناعم، التي تجعلة سهل الثني أو التلف مقارنةً بالفضة، وليس لأسباب تتعلق بالبيئة أو استغلال الموارد الطبيعية.
الميداليات الأوليمبية
واستمر هذا الاتجاه حتى استخدم منظمو أولمبياد ريو 2016 وطوكيو 2020 مواد معاد تدويرها لإنتاج الميداليات، ومن أجل تحقيق رغبة باريس في جعل أولمبياد 2024 هي الأكثر استدامةً على الإطلاق، اعتمد المنظمون أساليب مبتكرة للحد من التأثير البيئي.
وتضمنت تلك الأساليبُ الميدالياتِ المصنوعةَ من الذهب والفضة المعاد تدويرهما بنسبة 100%. أما الميداليات البرونزية فمصنوعة من سبائك النحاس والقصدير والزنك المعاد استخدامها من بقايا إنتاج العملات المعدنية الفرنسية.
ومع نجاح باريس في تقليل الأثر البيئي لصناعة 987 ميدالية ذهبية وفضية وبرونزية نالها المتنافسون خلال المنافسات، قد يكون علينا استغلال هذه الفرصة لتسليط الضوء على صناعة التعدين التي تحوَّلت مع الوقت إلى سوق سوداء تتسبَّب في تفاقم الآثار السلبية، وفي مقدمتها الأضرار البيئية.
الميداليات الأوليمبية
التعدين والآثار البيئية
في أغلب الأحيان، تترك عمليات التعدين آثاراً بيئية كبيرة داخل مناطق الاستخراج والأماكن المحيطة، بالإضافة إلى آثار أوسع على صحة الكوكب بشكل عام، وهي العمليات التي سوف نرصدها في عدة نقاط.
تأثير التعدين على الأرض
المشكلة الرئيسية المرتبطة بمشاريع التعدين هي التغير الذي يحدث في الأراضي الطبيعية والبيئة الأصلية، نتيجة حفر المناجم المفتوحة، وتطوير البنية التحتية المحيطة، وإنشاء معسكرات لتوفير الإقامة لعمال المناجم وكذلك السكك الحديدية والطرق اللازمة لنقل المواد الملغومة؛ ما قد يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات التي يسببها الإنسان في النظم البيئية المحلية، كما أن عمليات البحث والاستخراج قد تؤدي إلى إزالة الغابات أو أجزاء منها؛ ما يهدد النظم الإيكولوجية والتنوع الأحيائي.
صناعة التعدين
انبعاثات غازات الدفيئة
عملية التعدين تستهلك كبيرة من الكهرباء المولدة من محطات الطاقة التي تعمل بالوقود الأحفوري؛ ما يعني زيادة نسبة انبعاثات غازات الدفيئة، والضغط على موارد البيئة، وارتفاع نسبة التلوث في الهواء، كما يؤدي تدمير الغطاء النباتي والتربة أثناء الاستخراج إلى إطلاق ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى.
وفقاً لموقع "visual capitalist"، فإنه اعتماداً على بيانات مجلس الذهب العالمي، تقدر إجمالي الانبعاثات السنوية لتعدين الذهب بنحو 126.4 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون؛ أي ما يعادل حرق نحو 300 مليون برميل من النفط. وتعتبر عمليات استخراج الذهب مرحلة كثيفة الاستهلاك للطاقة، وتمثل الكهرباء أكبر مصدر للانبعاثات؛ حيث تنتج نحو 54 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون، أي ما يعادل نسبة 43% من إجمالي انبعاثات الكربون من مناجم الذهب العالمية.
استخدام المياه في التعدين
غالباً ما يكون لعمليات التعدين ومعالجة المعادن آثار مائية عالية؛ حيث تتطلب العديد من المراحل استخدام المياه.
على سبيل المثال، تخفيف الغبار، وإزالة الجسيمات القابلة للذوبان، وعمليات الغربلة والفصل، وإنشاء سدود المخلفات لإدارة النفايات. ورغم أن بعض المراحل، مثل فصل المعادن، يمكن فيها إعادة استخدام المياه، فإن مراحل أخرى مثل الرش لإزالة الغبار العالق بالهواء، تؤدي إلى تلوث المياه؛ ما يمنع إعادة التدوير.
كما أن الاستهلاك المرتفع للمياه بعمليات التعدين في المجتمعات البعيدة، يمكن أن يؤدي إلى صعوبة وصول السكان المحليين إلى إمدادات المياه العذبة غير الملوثة؛ ما يُسبِّب الإجهاد المائي.
صناعة التعدين
التلوث التعديني
حسب موقع Earth.org فإن هناك العديد من الحالات الموثقة للتلوث البيئي الناجم عن عمليات التعدين، التي غالباً ما تكون ناتجة عن تسرب مخلفات التعدين، وهي المواد التي يتم فصلها وتركها بعد استخراج المعادن والمواد ذات القيمة الاقتصادية، أو التي يتم تخزينها في سدود للمخلفات الكبيرة؛ لأنها قد تكون مشعة أو سامة أو حمضية.
ونتيجةً للوائح الدولية الصارمة، انخفض التلوث الناجم عن التعدين بشكل كبير، لكنه لا يزال يمثل مشكلة في العديد من البلدان النامية؛ حيث تحدث عمليات تعدين غير قانونية وصغيرة الحجم تتم عبر استخدام تكنولوجيا غير آمنة، ويؤدي سوء إدارة المواقع إلى التلوث البيئي في المنطقة.
التأثير على المجتمعات الأصلية وعمال المناجم
بجانب الآثار البيئية التي تصيب الأراضي، هناك الأثر الأخلاقي لهذه الصناعة، الذي يتمثل في الإضرار بالنظام الإيكولوجي في المجتمعات الأصلية.
ونتيجةً للقوانين الصارمة، انخفض تعدين الذهب في بعض المناطق، واتجهت الشركات إلى المغامرة والبحث في مناطق جديدة نائية بعيدة عن طائلة القانون، فكانت النتيجة الإضرار بالنظم البيئية السليمة ومجتمعات السكان الأصليين التي ترتبط سبل عيشها بصحة هذه المناطق.
وبالإضافة إلى مسألة الصحة والسلامة لعمال المناجم، لطالما كان التعدين مهنة خطيرة. وحسب موقع "يورونيوز" كان هناك 81 حالة وفاة مرتبطة بصناعة التعدين عام 2018، وكلما ندرت الموارد بدأت الشركات في التعدين بشكل أعمق في طبقات الأرض؛ ما يزيد خطر الانهيار واستنشاق المواد الكيميائية السامة من قِبَل عمال المناجم.
صناعة التعدين
مستقبل الذهب المستدام
مع زيادة المخاوف الأخلاقية والبيئية في عالم صناعة التعدين، ظهرت العديد من المبادرات التي تسعى إلى مكافحة هذه المشكلات، وانتشرت مؤخرًا تسمية "الذهب المستدام"، التي تحمل عدة مفاهيم أو تعريفات تبعاً لنهج كل شركة؛ وذلك على النحو التالي:
أولًا: الذهب الصديق للبيئة
أي الذهب الذي يتم استخراجه بطريقة تضمن الحد الأدنى من التأثير على الأرض والبيئة. فعلى سبيل المثال، لا يجري استخدام أي مواد كيميائية سامة أثناء عملية التعدين، ويتم الاعتماد على طاقة نظيفة ومياه مالحة منخفضة الجودة، مع استخدام تقنيات أقل عدوانيةً على البيئة من خلال استهلاك مساحة أقل من الأراضي، وانبعاث كميات أقل من الملوثات، وتخفيض سمية المخلفات، وتحسين كفاءة عملية التعدين عبر إعادة التدوير. وأحياناً يتم وضع برامج تضمن استعادة النظام البيئي الأصلي كما كان قبل عمليات الاستخراج. ومن المؤكد أن جعل مراحل التعدين أكثر استدامةً سيؤدي إلى زيادة الكفاءة وخفض التكاليف.
ثانياً: الذهب المعاد تدويره
وهو الذهب الذي تم استخدامه من قبل، ويتم إعادة تصميمه وتشكيله في قطع جديدة من المجوهرات بدلاً من التنقيب في الأرض عن المزيد من الذهب الجديد. وتتجه العلامات التجارية التي تستخدم المواد المعاد تدويرها إلى أخذ هذا الذهب من المجوهرات القديمة أو الخردة المعدنية أو من المخلفات الثانوية لبعض المنتجات الصناعية.
صناعة التعدين
المقارنة بين الانبعاثات الكربونية الناتجة عن الذهب المعاد تدويره والذهب المستخرج حديثاً:
الذهب المعاد تدويره ليس معفياً من البصمة الكربونية؛ فقبل مراحل النقل والتصنيع، يجب أن يمر بمراحل الصهر والمعالجة والتكرير. وتستهلك هذه العمليات الكثير من الطاقة، ولكن لا يمكن مقارنتها بتاتاً بانبعاثات الكربون الناتجة عن تعدين الذهب وإنتاجه.
وحسبما ذكرنا سابقاً، فإن إجمالي الانبعاثات السنوية لتعدين الذهب يُقدَّر بنحو 126.4 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون. أما الذهب المعاد تدويره فينتج 4200 طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً.
وعند مقارنة الجرام الواحد من الذهب في الحالتين، سوف نجد أن جراماً واحداً من الذهب المستخرج حديثاً يولد 36,4 ألف جرام من الانبعاثات الكربونية. أما الجرام الواحد من الذهب المعاد تدويره فيولد 53 جراماً فقط. وبعبارة أخرى، فإن ثاني أكسيد الكربون المنبعث في الهواء يقل بمقدار 686 مرة أو بنسبة 99%، وفقاً لموقع Lebrusan studio.
البصمة الكربونية لكل قطعة من المجوهرات، يأتي نحو 95% منها من استخراج وإنتاج المعدن؛ لأن أكبر نسبة من انبعاثات الكربون في صناعة الذهب ناتجة عن التعدين والمعالجة.
يعتبر الذهب المعاد تدويره أكثر نفعاً للبيئة وأقل ضرراً بكثير، لكن المشكلة التي تواجه العلامات التجارية هي طرق الحصول على الذهب المعاد تدويره؛ لأن هذا الذهب غالباً ما يأتي من مصادر متعددة؛ فقد يكون من الصعب تتبع سلسلة التوريد؛ لذلك في بعض الأحيان يمكن أن يدخل "الذهب القذر" أو الذهب الذي يتم الحصول عليه بشكل غير أخلاقي أو من مناطق الصراع؛ لذلك يجب مراعاة هذه النقطة والتأكد من المصدر.
ثالثاً: الذهب الأخلاقي
لا يقف مفهوم الذهب الأخلاقي عند "الاستدامة" البيئية، بل يمتد إلى الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية الطويلة المدى، التي لا تقل أهميةً عن احتياجات كوكب الأرض؛ حيث لا يمكن تجاهل ما بين 15 و20 مليون من عمال المناجم الحرفيين في جميع أنحاء العالم الذين يعتمدون على التعدين مصدراً للدخل.
ولذلك ظهر مفهوم الذهب الأخلاقي، أو الذهب المستخرج حديثاً، لكنه يأتي من شركات التعدين الحرفية الصغيرة الحجم. ووفقاً لمفهوم "التعدين الحرفي المسؤول"، يتم إنتاج الذهب وفقا لأفضل الممارسات الدولية والمعايير البيئية والاجتماعية وباستخدام العمليات القانونية؛ ولذلك فإن الذهب الأخلاقي يعني ضمان أجور عادلة، وظروف عمل آمنة والرعاية الصحية ورفض عمالة الأطفال، كما تتسم سلاسل التوريد بالشفافية.
وبجانب الفوائد الإنسانية، فإن بعض المناجم الحرفية الصغيرة الحجم تُعَد من أبطال الاستدامة البيئية أيضاً؛ حيث يجري استخراج الذهب بشكل بيئي دون استخدام أي ملوثات مع إعادة تدوير الموارد؛ ما يقلل من انبعاثات الكربون بشكل كبير بالمقارنة مع معظم عمليات تعدين الذهب الأخرى.
ويتمتع الذهب بتاريخ طويل بصفته معدناً ثميناً بسبب ندرته ومتانته، ومع ذلك، فإن تعدين الذهب بالطريقة التقليدية عملية مرهقة للبيئة، ومساهم رئيسي في زيادة الانبعاثات في الغلاف الجوي؛ لذلك يجب إنشاء بنية تحتية خضراء، واعتماد الطاقة المتجددة، وابتكار تقنيات تعدين نظيفة مع لوائح بيئية صارمة؛ حتى تتمكن صناعة التعدين من تمهيد الطريق لمستقبل مستدام.