كانت الكائنات في الحياة البرية والبحرية تعيش في هدوء وتُحافِظ على التنوع البيولوجي بشكل طبيعي وسلس، حتى تدخَّل الإنسان ووضع بصمته الكارثية على البيئة، وأراد أن يفرض سيطرته على هذا الكون.
منذ تلك اللحظة، اختل ميزان التنوع الإيكولوجي، وباتت الكثير من هذه الكائنات مهددةً بخطر الانقراض، ومنها الأطوم أو عروس البحر أحد أكثر الحيوانات الخجولة والمسالمة على الكوكب.
مع مرور الوقت، بدأت البشرية تعي ما ارتكبته من جرم في حق البيئة، وتحاول حالياً تسخير كل ما أوتيت من قوة وتطور من أجل إصلاح ما أفسدته عبر القرون السابقة، فكيف تستطيع التقنيات التكنولوجية الحديثة حماية الأطوم من الموت والحفاظ عليه من الانقراض.
قصة الأطوم وأسطورة عروس البحر
"بقرة البحر" هي الوحيدة بين الثدييات البحرية التي تتغذى على الأعشاب؛ فهي نباتية، وتتميز بلون رمادي، وشفاه قوية وكبيرة لاقتلاع النباتات العشبية، صاحبة عيون صغيرة تحد من قدرتها البصرية، لكنها في المقابل تملك حاسة سمع حادة جداً، لكن للأسف انضمت أبقار البحر إلى القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض الصادرة عن الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة "IUCN" عام 2015.
وحسب ما ذكر موقع Europeana.eu، نقلاً عن كتاب السيرة الذاتية ورحلات كريستوفر كولومبوس، الذي كتبه المؤرخ والكاتب الأمريكي المعروف واشنطن إيرفينغ في القرن الـ19، فإن كريستوفر كولومبوس وصف في مذكراته لقاءه مع ثلاثة من حوريات البحر التي ارتفعت فوق سطح الماء، قبالة سواحل أفريقيا.
أسطورة عروس البحر
وأوضح المؤرخ واشنطن إيرفينغ أن كولومبوس كان يميل إلى إضفاء طابع رائع وخيالي على كل شيء في العالم الجديد الذي يكتشفه؛ لذلك ربط بين أسطورة حورية البحر وثدييات مائية تُعرف باسم أبقار البحر؛ لأن الأخيرة تتمتع بصوت مميز يشبه أصوات الزقزقة تتواصل به فيما بينها.
هذا الصوت سحر البحارة قديماً، واعتبروه دعوة من حوريات البحر للعيش معهن في عالم تحت الماء؛ ما ألهم خيال البحارة بأسطورة "عروس البحر"، وربما نجد بسبب ذلك أن تجسيد حورية البحر في الصور والحكايات الشعبية القديمة يتميز بذيل مفلطح يشبه ذيل الأطوم الذي يُسهِّل حركته بالمياه.
الأطوم في العالم العربي
حسب الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة "IUCN"، تعيش أبقار البحر في المناطق الساحلية والمياه الضحلة المتوسطة العمق، والمياه الدافئة؛ حيث تتوافر طبقات الأعشاب البحرية؛ لذلك يمتد النطاق الجغرافي لوجودها داخل المياه الساحلية بين شرق أفريقيا حتى شرق أستراليا، بين خطي عرض نحو 27 درجة شمالَ وجنوبَ خط الاستواء، عبر نحو 44 دولة على مستوى العالم، منها 10 دول عربية؛ هي الإمارات العربية المتحدة، وقطر، ومصر، والمملكة العربية السعودية، والسودان، واليمن، وجزر القمر، وجيبوتي، والأردن، والبحرين. وتؤكد الأدلة الأثرية وجود أبقار البحر منذ نحو 6000 عام في مياه الخليج العربي.
لا يوجد معلومات حول أعداد أبقار البحر عالمياً وإقليمياً، لكن يذكر موقع الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة أن هناك مجموعات فرعية كبيرة من أبقار البحر، يصل عددها إلى المئات أو الآلاف، تعيش في خمسة بلدان: أستراليا والإمارات العربية المتحدة، وقطر، والبحرين، وبابوا غينيا الجديدة.
ووفقاً للموقع الرسمي لهيئة البيئة - أبوظبي، تحتضن المحميات الإماراتية نحو 3000 بقرة بحر.
تتمتع أبقار البحر الأحمر والخليج العربي وشرق أفريقيا بسمات موحدة إلى حد ما مع تنوع جيني محدود يميزها عن الأبقار الأسترالية التي تمثل النسبة الكبرى من الأطوم الموجودة في العالم؛ حيث تعرف أستراليا بعاصمة أبقار البحر في العالم.
الأطوم
التهديدات الرئيسية
تختلف التهديدات التي تتعرض لها أبقار البحر باختلاف الأماكن، وتشمل الصيد العرضي والصيد غير القانوني، والوقوع في شباك الصيد المهجورة. وتشكل أدوات الصيد العشوائية، مثل الشباك الخيشومية، تهديداً كبيراً للعديد من الثدييات البحرية، بما في ذلك أبقار البحر، بجانب الاصطدام بالقوارب وأنشطة القوارب التي تؤثر على التواصل بين الحيوانات والتفاعل مع بيئتها مثل التلوث الضوضائي، والتلوث البحري بالملوثات الكيميائية كالنفط، وفقدان الموائل الناجمة عن الاستيطان البشري للسواحل.
وهناك التهديدات التي تتعرض لها الأعشاب البحرية؛ الغذاء المفضل للأطوم، مثل مياه الصرف الصحي غير المعالَجة، والتجريف الساحلي والتلوث الزراعي. ويؤدي فقدان الأعشاب البحرية إلى انخفاض الموارد الغذائية لأبقار البحر وتأخر تكاثرها. يذكر أن أبقار البحر تستهلك ما يصل إلى 85 رطلاً من الأعشاب البحرية يومياً. وتوجد هذه الأعشاب داخل المياه الساحلية الضحلة بالقرب من ضوء الشمس.
ومن المتوقع أن يؤدي تغير المناخ والظواهر الجوية المتطرفة إلى تغير الحالة البيئية الساحلية، وزيادة العواصف الاستوائية الشديدة والفيضانات التي يمكن أن تؤثر على كل من أبقار البحر وموائل الأعشاب البحرية الخاصة بها؛ ما يسبب تفاقم المخاطر والتعرض للانقراض، وخاصةً أن معدل تكاثر أبقار البحر هو مولود واحد كل ثلاث أو أربع سنوات؛ لذلك فهي بطيئة في التعافي من الخسائر.
التكنولوجيا الحديثة وإنقاذ الأطوم
المسوحات الجوية مكلفة للغاية؛ لذلك لا يمكن رسم خريطة منتظمة للمجموعات المتناثرة من أبقار البحر حول العالم، وتحديد مساراتها والتهديدات التي تواجهها وتجعلها عرضة للخطر الشديد، لكن التطورات التكنولوجية الحديثة قد تقدم حلاً يساعد في الحد من هذه المخاطر، فتحافظ على الأطوم من الانقراض.
أجرى أحد الباحثين في جامعة جوتنبرج السويدية، تجربة تعتمد على استخدام طائرات بدون طيار لتتبع مسارات التغذية المميزة التي تتركها أبقار البحر وراءها في خليج مابوتو بجنوب موزمبيق؛ حيث تعيش مجموعات صغيرة على الساحل من جنوب الصومال حتى الخليج.
الأطوم
وعلى مدار ستة أشهر، قامت هذه الطائرات بـ12 رحلة أثناء انخفاض المد، وهي الفترة التي يسهل فيها تصوير أعشاب البحر في الخليج بوضوح، وقد استخدم الباحث نماذج التعلم الآلي لمعالجة آلاف الصور التي تم التقاطها من أجل تحديد مسارات التغذية بالخليج، وقد أظهرت هذه الصور وجود الكثير من مسارات التغذية؛ ما يثبت وجود أبقار البحر التي ما زالت تأتي إلى المضيق وتأكل تلك الأعشاب البحرية.
تتمثل أهمية هذه التجربة في توضيح أماكن مروج الأعشاب البحرية المفضلة لأسراب الأطوم، ومن ثم أماكن وجود هذه الحيوانات المسالمة، التي غالباً ما تكون قريبةً جداً من الشباك الخيشومية وأماكن الصيد؛ ما يعرضها بشكل خطير للصيد العرضي والاصطدام بالقوارب، وهي من أهم العوامل وراء تهديد الأطوم بالانقراض.
ومن ثم فإن تعميم هذه التجربة في أماكن وجود أبقار البحر، وخاصةً داخل مياه البحر الأحمر والخليج العربي، سوف يساعد في حمايتها عبر تحديد مسارات التغذية المفضلة لها، ثم مشاركة هذه المعلومات والبيانات مع المسؤولين والصيادين والمجتمعات المحلية؛ ما يلعب دوراً هاماً في بناء الوعي حول أبقار البحر ومسارات وجودها، وتوجيه قرارات إدارة الحياة البحرية في هذه المناطق، ووضع خطط مستقبلية لتقييد عمليات الصيد وتحديد ممارسات الصيد الأكثر أمانًا داخل هذه الأماكن؛ ما يؤدي إلى الحفاظ على الأطوم وإنقاذ الأسراب المتبقية من الانقراض.