بثرواته المتعددة، وشواطئه الخلابة، لعب البحر الأبيض المتوسط، على مدى آلاف السنين، دوراً هاماً في تشكيل حياة مَن يسكنون على سواحله الطويلة، التي تقع مساحات واسعة منها ضمن العالم العربي.
لكن الاستغلال الجائر لثروات البحر، الذي تتجاوز مساحته مليونَي كيلومتر مربع، كان له عواقب وخيمة على الكائنات التي اعتادت العيش تحت سطحه، ومن هنا ظهرت ضرورة بذل المزيد من الجهود لحمايتها.
في عام 2023، أطلقت جمعية أصدقاء الطبيعة في لبنان، برنامجاً غير ربحي للتدريب على الصيد المستدام، بدعم من مبادرة داروين التابعة لحكومة المملكة المتحدة.
في حديثها إلى "جرين بالعربي"، تشير ستايسي مطران مسؤولة البرنامج، إلى أن السواحل الطويلة للبنان على البحر المتوسط، التي تمتد لأكثر من 200 كم، كانت من الأسباب وراء فكرة التدريب على الصيد المستدام.
وتابعت قائلةً: "وجدنا أن من مسؤوليتنا أن نبادر من أجل حماية بحرنا، والعمل على استعادة الثروات التي تميزه".
ويعود تاريخ جمعية أصدقاء الطبيعة إلى عام 1972، عندما أسَّسها العالم ريكاردوس الهبر، وهي أول مؤسسة غير حكومية معنية بالبيئة في لبنان، وفقاً للموقع الرسمي للجمعية.
تقول "مطران" إن البرنامج يستهدف ذوي الدخل المحدود من الشباب؛ لعدة أسباب، من بينها الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها لبنان، والتي أثرت بشدة على تلك الفئة ممن لا يتمتعون بوظائف ثابتة.
وتُتابِع أن التدريب يهدف إلى دفع الشباب الذين لا يجدون فرصة عمل إلى الاستثمار في بلدهم بطريقة مستدامة ومفيدة، بدلاً من السفر إلى الخارج.
وتعمل المؤسسة من خلال التركيز على محورين: الأول استهداف الهواة، أو من لا يتمتعون بأي معرفة عن الصيد، ويرغبون في الانضمام إلى المجال، فيما يشمل المحور الثاني التواصل مع الجمعيات التعاونية الخاصة بالصيادين؛ لتزويدهم بمعلومات عن الصيد المستدام.
تواصل مستمر
المؤسسة كذلك تبقى على تواصل عن بُعد مع المشاركين الذين ينضمون إلى التدريب مجاناً لمدة عامين كاملين.
تشير "مطران" إلى أنه "عن طريق التواصل مع المتدربين عبر تطبيق (واتساب)، نتمكن من معرفة أنواع الأسماك المختلفة التي نجحوا في صيدها؛ كي يجري إنشاء قاعدة بيانات بالأنواع الموجودة في بحر لبنان".
ممارسات خطيرة
وفقاً لمسؤولة المشروع، هناك قائمة من الممارسات البيئية غير المشروعة التي تعمل المؤسسة على مواجهتها؛ من بينها الاستعانة بمواد تُصنَّف ضمن قائمة السموم، خلال عمليات الصيد، وهي المواد التي تؤدي إلى الحصول على كميات كبيرة من الأسماك النافقة، وهو الأمر الذي تمتد آثاره الصحية عبر أجيال مختلفة، دون أن يدرك المستهلكون أو الصيادون خطورة ما يتناولونه.
إضافة إلى ذلك، يشكل استخدام الديناميت في الصيد الذي يُعرَف بالصيد بالتفجير، أضراراً خطيرةً على البيئة.
تشير "مطران" إلى الآثار السلبية لتلك الممارسات على البيئة البحرية من نفوق الأسماك، وابيضاض الشعاب المرجانية بفعل السموم والمواد الكيميائية التي تترسب في المياه.
غالبية نسائية
هناك جانب آخر من الأمر أشارت إليه "مطران"، وهو أن غالبية القائمين على تنفيذ المشروع من النساء.
إحدى النساء اللاتي شاركن في نقل خبراتها إلى المتدربين هي صولانج سفير التي تهوى ممارسة الصيد بجانب مهنتها الأساسية، حتى أُطلق عليها "مجنونة البحر".
في حديثها إلى "جرين بالعربي"، تروي الصائدة اللبنانية التي يقع مسقط رأسها بمدينة جبيل ذات الطبيعة الساحرة، كيف بدأت علاقتها بالبحر منذ طفولتها، قائلةً: "عندما حملتُ أول سمكة في حياتي كنتُ بعمر الخامسة، بعدما تعاونت مع شقيقي على اصطيادها باستخدام قصبة (إحدى أدوات الصيد)".
إقبال "سفير" على الصيد وضعها في مواجهة تعليقات سلبية ممن يرون أنها غير قادرة على منافسة الرجال في ذلك المجال، أو غير قادرة على صيد أنواع معينة من الأسماك، لكن مشاركة صور الأنشطة التي تقوم بها على وسائل التواصل الاجتماعي، غيَّرت الوضع إلى حد ما، وزادت من تشجيع الجمهور لها، علاوةً على زيادة رغبتها في التدريب والتعلم.
رياضة روحية
تشير صائدة الأسماك إلى فوائد تعلُّم الصيد في عمر مبكر، خاصةً بالنسبة إلى المراهقين المعرَّضين للعديد من الأخطار، من وجهة نظرها، بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وخطر الانجراف إلى ممارسات خاطئة مثل التدخين.
وتُكمِل: "أحثُّ العائلات على تشجيع أبنائهم على تعلُّم الصيد؛ فهو رياضة روحية وجسدية، وتعمل على تخفيف الشعور بالتوتر".
روت "سفير"، في حديثها إلينا، كيف تحمست مديرة الجمعية الدكتورة ميرنا سمعان بشدة لفكرة التدريب عندما اقترحتها عليها، مضيفةً: "نربي جيلاً جديداً من الصيادين الذين سيعملون بطريقة مستدامة"، مشيرةً إلى معاناة لبنان من الصيد الجائر، ونوَّهت بتعامل البعض بأنانية بزعم أنهم إذا التزموا بالطريقة المستدامة، فإن غيرهم لن يلتزموا، بما في ذلك من يتخذون الصيد مهنةً لهم، ويقومون بممارسات تعود بأضرار عليهم.
قبل البدء مع مجموعات المتدربين، هناك عدة خطوات تحرص "سفير" على إتمامها، مثل إرسال أسماء أهم أنواع الأسماك، والأحجام المسموح بصيدها إلى المجموعة الخاصة بالفريق، ثم إعداد المعدات اللازمة للتدريب، كالسنانير والخيوط والقصب.
بعد انطلاق القارب، تنطلق المسابقات بين المتدربين حول معرفة الأسماك التي يصيدونها، وينتهي التدريب بمنح جوائز للفائزين، لتتواصل المساعدة لاحقاً إذا ما أراد أيٌّ منهم تطوير مهاراته وتحويلها إلى مهنة دائمة.