على الجدران، والأحجار، والأوراق البدائية، دوَّن البشر في العصور القديمة القواعد التي وضعوها لتنظيم مجتمعاتهم، والتي تطورت تدريجياً بمرور الزمن مع تطور الأزمات حتى باتت القوانين بشكلها الذي نعرفه اليوم.
ومع تعقُّد المشكلات البيئية، وصولاً إلى أزمة التغير المناخي، بات لزاماً على بلدان العالم المختلفة استحداث قوانين تواجه بها التهديد الأكبر الذي يواجه الأرض، ومن يحاولون تعطيل جهود النجاة منه.
موقع القضايا البيئية من دساتير الدول، أو ما يطلق عليه الخبراء "أبو القوانين"، شهد كذلك تطوراً على مر السنوات؛ فبينما تحتوي العديد من الدساتير على قواعد لحماية البيئة بمختلف مكوناتها، ذهبت دول أخرى إلى تضمين أزمة التغير المناخي صراحةً.
سبق لاتيني
الأكثر قراءة
في سبتمبر من عام 2008، وافق نحو 64% من الشعب الإكوادوري على دستور جديد للبلاد، كان الأول في العالم الذي ينص على مادة تتعلق بحماية المناخ، قبل أن تلحقها بعد ذلك دول مختلفة.
وجاء في المادة "414" من دستور الإكوادور أنه يجب على الدولة تبني تدابير كافية وجامعة لتخفيف التغير المناخي، من خلال الحد من غازات الاحتباس الحراري، والحد من التصحر، وتلوث الهواء، واتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على الغابات والغطاء النباتي، وحماية السكان المهددين بالخطر، بحسب نص الدستور.
الدستور حمل خطوة أخرى غير مسبوقة عالمياً، وهي تضمين تفاصيل حماية البيئة تحت فصل "حقوق الطبيعة"، وشملت حق الطبيعة في التجديد واستعادة الوضع الذي كانت عليه.
ورغم محدودية مساهمة الإكوادور في الانبعاثات الكربونية العالمية التي اقتصرت في 2022 على أقل من 1%، فإن أراضيها التي تغطي الغابات الأصلية أكثر من 50% منها تمثل منطقة محورية في مواجهة الأزمة، بحسب إحصائيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
إحدى القضايا التي برزت فيها أهمية تلك النصوص، كانت في عام 2021، حين أصدر القضاء الإكوادوري حكماً بعدم دستورية وجود مشاعل الغاز في منطقة غابات الأمازون، في الدعوى التي رفعها 9 من أطفال المنطقة يبلغ عمر أكبرهم 14 عاماً، بحسب موقع مؤسسة "Amazon Frontlines"، وهي منظمة غير ربحية تعمل مع السكان الأصليين في الدولة اللاتينية لحماية منطقة الأمازون.
وتُستخدَم تلك المشاعل في حرق المنتجات الثانوية لعمليات استخراج الوقود الأحفوري. ويُقدِّر البنك الدولي أن حرق كل متر مكعب من الغاز المصاحب لتلك العمليات يؤدي إلى انبعاث 2.6 كجم من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
جهود عربية
إذا ما انتقلنا إلى العالم العربي، فسنجد أن الدستور التونسي الذي خرج إلى النور في عام 2014 نص على مبدأ ضمان الدولة لـ"الحق في بيئة سليمة ومتوازنة"، و"المساهمة في سلامة المناخ"، لتصبح ثالث دولة في العالم تُقدِم على تلك الخطوة، وهي المواد التي استمر العمل بها في الدستور الصادر في 2022.
في حديثها إلى "جرين بالعربي"، أكدت عفاف الهمامي المراكشي أستاذة التعليم العالي بكلية الحقوق في جامعة صفاقس التونسية، أهمية التكريس الدستوري لقضية التغير المناخي، ومساهمة ذلك الأمر في تعزيز مواجهة الأزمة، مشيرةً إلى أن الأمر اتخذ أشكالاً ودرجات مختلفة من التعامل؛ فهناك دول كرَّست مصطلح المناخ، وأخرى تحدَّثت عن تأثيرات التغيرات المناخية، أو سلامة المناخ كما هو الحال في الدستور التونسي.
وأضافت أستاذة التعليم العالي بكلية الحقوق في جامعة صفاقس التونسية، أن مثل هذا الأمر له انعكاسات على واجب الدولة في مواجهة أزمة المناخ، وعلى حقوق المواطنين في مواجهتها، وفي تطور الإطار التشريعي الصادر لاحقاً؛ إذ يعزز المراقبة الدستورية للقوانين التي سيجري مناقشتها في تلك الدول، وإمكانية الطعن عليها – على سبيل المثال – إذا لم تتماشَ مع الفصول المتعلقة بقضية المناخ.
وفي الحالة التونسية، ترى عفاف الهمامي المراكشي أن خطوة تضمين دور الدولة في تحقيق سلامة المناخ في الدستور هامة للغاية، ويعود الأمر إلى ما قبل عام 2014 في التفكير في إصدار نص قانوني يُعنَى بقضية التغيرات المناخية.
أستاذة التعليم العالي بكلية الحقوق ترى أنه بفضل هذا التكريس الدستوري، هناك قوانين جديدة منتظرٌ صُدورُها، من بينها مجلة البيئة التي ساهمت في صياغتها والتي تجمع الأطر التشريعية المتعلقة بالمجال، ومن المنتظر إرسالها إلى البرلمان، وانطلاقاً من ذلك يتضح أن ذلك التكريس ليس "حبراً على ورق"، بل له تبعات هامة وانعكاسات في تطور المستوى التنازعي والقضائي.
تطور محدود
وعن العالم العربي، تقول "المراكشي" إن هناك قوانين بيئية بالمعنى الواسع تطورت في المنطقة، لكن المجهود لا زال ضئيلاً فيما يخص الالتزامات المتعلقة بالمناخ، ومقاومة الأزمة الناتجة عن التغيرات المناخية، كما أن المسؤوليات ليست واضحة بما يكفي، ولا تزال إمكانية لجوء الأفراد والمجتمع المدني إلى القضاء غير واضحة كذلك.
لكن هناك مفارقة سلبية تشير إليها "المراكشي"، وهي تراجع الاهتمام بمادة القانون البيئي في كليات الحقوق بتونس مقارنةً بالسابق؛ حيث تعتبر مادة اختيارية، في الوقت الذي يتزايد فيه الاهتمام بالبيئة على المستويين المحلي والدولي.
وبحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومركز "سابين" لقانون تغير المناخ في جامعة كولومبيا الأمريكية، فإن غالبية الدعاوى القضائية المناخية التي شهدها العالم في 2022، التي تخطى عددها 2180 دعوى، وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن علاقة بلدان العالم بأكمله بقضايا البيئة والمناخ ،حتى الدول المتقدمة منها التي وصلت إلى هذه المرحلة من التطور القانوني، مرَّت بالعديد من المراحل.
البروفيسور بوحنية قوي أستاذ الحوكمة والعميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورقلة في الجزائر، أشار في حديثه إلى "جرين بالعربي"، إلى أن حديث العالم عن حق الإنسان في بيئة سليمة يعتبر حقاً حديث النشأة.
وأشار إلى أن بداية الاهتمام الدولي بقضايا البيئة كانت في المؤتمر الدولي للأمم المتحدة للبيئة الذي عُقد في عام 1972 بالعاصمة السويدية ستوكهولم، عندما جرى الحديث عن مجموعة من النظم الطبيعية والثقافية والاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان والكائنات الأخرى، ثم تلاه الحديث عن هذا الحق، وتوالى الاهتمام بمجال البيئة لاحقاً، وهو ما ارتبط بعدة اتفاقيات؛ منها الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ 1992، معتبراً أن الدول العربية مهتمة بالقوانين البيئية في ظل الحديث عن التنمية المستدامة.
ولفت أستاذ القانون إلى الاهتمام بقضايا البيئة في الدساتير الجزائرية، وآخرها النسخة الصادرة في عام 2020، مشيراً إلى المادة 64 من التعديلات التي نصت على أنه "للمواطن الحق في بيئة سليمة في إطار التنمية المستدامة".
وفي تلك النسخة كذلك، انضمت الجزائر إلى البلدان التي تطرقت إلى قضية المناخ في الدستور؛ إذ وصفت النسخةُ الجديدة الشعبَ الجزائري بأنه "منشغل بتدهور البيئة والنتائج السلبية للتغير المناخي".
البروفيسور بوحنية قوي أشار إلى تأسيس المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي حددت المادة 210 من الدستور مهامه، وتشمل توفير إطار لمشاركة المجتمع المدني في التشاور الوطني حول التنمية البيئية في إطار التنمية المستدامة.
وعن الوعي بالقانون البيئي، يشير "قوي" إلى أنه يجب على كافة الفاعلين القيام بدورهم المهم في هذا المجال؛ فالمشرع له دور مهم للغاية، ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام لا بد أن يكون لديها فقرات عن البيئة، والمناخ، والتنمية المستدامة.
التصدي للانتهاكات البيئية لا ينعكس أثره على الأجيال الحالية فحسب؛ إذ يرى العميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورقلة في الجزائر، أن من يرتكبون هذه الجرائم، مثل الجرائم المتعلقة بالغابات أو التخلص غير القانوني للنفايات، يؤثرون على حقوق الأجيال القادمة.