العمارة البيئية.. إبداعات من الماضي تُخفِّف آثار الاحتباس الحراري


مروة بدوي
الجمعة 17 نوفمبر 2023 | 06:30 مساءً

بِسمات وتصميمات معمارية، تتميز كل حقبة تاريخية بطابع فريد، غير أن الثورة الصناعية ساهمت في بناء مدن تخلو من الأشجار أو المسطحات المائية في العالم.

واتسمت عمارة المدن، في النصف الثاني من العصور الوسطى، من القرن الـ١١ حتى الـ١٤ الميلادي، بالقدرة على التكيف مع البيئة والمناخ، باستخدام تقنيات معمارية تعتمد على الموارد المتاحة بأسلوب ذكي وفعال.

وبحسب وصف الكاتب الإسباني فرناندو تشويكا غويتيا، في كتاب "موجز تاريخ التمدن"، بُنِيت المدن القديمة في أماكن مثل التلال والجزر والأنهار؛ من أجل استغلال البيئة الطبيعية لحماية السكان من الأعداء وحرارة المناخ على السواء، لا سيما أن البناء بالقرب من الجداول المائية أو المرتفعات، كان سبباً في تلطيف الأجواء، وجعل المدن أكثر قدرةً على تحمُّل الحرارة.

جرى تخطيط المدن في هذه الحقبة، بشكل دائري له مركز تتفرع منه الشوارع الرئيسية ذات الطرق الضيقة والمتعرجة، والأشجار العملاقة التي زادت من أماكن الظل بجانب النوافير المزخرفة التي كانت وسيلةً للحفاظ على برودة الهواء مع ساحات عامة تسمح بالتهوية.

العالم العربي

واتسمت المدن في الحضارة الإسلامية القديمة، بتخطيط ملائم للأجواء العربية الحارة، وخاصةً خلال أشهر الصيف؛ ما يعكس العلاقة الوثيقة بين العمارة والبيئة والمناخ. وقد انتقلت بعض أساليب المعمار الإسلامي إلى القارة العجوز عن طريق الأندلس.

وعُرِف معمار الحضارة العربية بعناصر كثيرة للتهوية والتكييف، واستُغِلت هذه العناصر في العمارة لتقليل درجات الحرارة وإنعاش الأجواء؛ حيث المشربيات المصنوعة من الخشب التي كانت تضيف طابعاً جمالياً على التصميم، وتُستخدَم للحماية من الشمس و توفير الظل، وكذلك نوافير الماء لتقليل الحرارة ونسبة الأتربة في الهواء.

كما أتاحت الساحات والأحواش المكشوفة في المباني، نظام تهوية طبيعياً كان يتلاءم مع المناخ الحار، بجانب المقاعد البحرية، وهي قاعات تواجه الجهة البحرية للمنازل لتوفير تهوية مناسبة.

وظهرت في مصر وبلاد الشام الحدائق الداخلية الصغيرة في القاعات الرئيسية بالبيوت باعتبارها وسيلة جمالية ومناخية أيضاً، بجانب وجود فتحات التهوية بالمنازل، وزيادة سمك الحوائط الخارجية؛ لعدم تسرب الحرارة الخارجية إلى داخل المباني.

وتعد "الملقف" من تقنيات التهوية والتكييف الفعالة في العالم العربي، وكان يُعرَف بأكثر من تسمية؛ منها "البادهنج" بالفارسية بمعنى فوهة الهواء، وعُرِفت أيضاً بـ"البراجيل"، وهي وسيلة لتبريد هواء الغرف بالمنازل، عن طريق بناء فتحات علوية للتهوية باتجاه الرياح، وفق كتاب" الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية" للمعماري المصري حسن فتحي.

أحياناً كان يتم تحويل "الملقف" من تقنية للتهوية إلى مكيف هواء، عن طريق تبريد الهواء الداخل من خلال تمريره على مسطح مائي رطب أو بوضع كتل من الثلج داخله.

وقد انتشرت هذه التقنية بالعالم العربي في منطقة الخليج والعراق ومصر، وما زال هناك واحد من أقدم أنواع هذه الملاقف في مدينة القاهرة التاريخية، داخل مسجد الصالح طلائع بن زُريك آخر المساجد الفاطمية التي بُنيت في مصر.

العمارة البيئية

في ضوء المزايا المناخية للمعمار القديم، اتجه العالم إلى الماضي للبحث عن حلول وتجارب معمارية تواجه أزمة المناخ، مع تقليل استخدام الوقود الأحفوري الذي يؤدي إلى الاحتباس الحراري، مثل مشروع إشبيلية الإسباني، ومشروع القرنة المصري، والجامعة القطرية.

وتُعَد إشبيلية من المدن الأكثر تضرراً من ارتفاع درجات الحرارة التي تجتاح أوروبا في السنوات الأخيرة، والتي تهدد صناعة السياحة وتُعرِّض صحة الآلاف الأشخاص للخطر؛ حيث استلهمت المدينة الإسبانية مشروع "قناة كارتوخا" أو Cartuja Qanat من العصور الوسطى، الذي يعتمد على التقنيات والمواد الطبيعية لخفض درجات الحرارة.

والقناة عبارة عن شبكة من الأنابيب تحت الأرض، مستوحاة من قنوات العصر الفارسي، التي دخلت الأندلس عن طريق الحكم الإسلامي؛ إذ تم تصميم النظام على غرار الأنفاق القديمة التي حُفِرت لجلب المياه إلى الحقول الزراعية في بلاد الفرس؛ حيث تعمل المياه الجارية على تبريد الهواء في القنوات.

وجرى تصميم القناة الإسبانية بالتقنية القديمة نفسها، مع بعض الإضافات الحديثة؛ إذ يبدأ نظام التبريد في العمل أثناء الليل؛ حيث تجري المياه عبر قناة خارجية تنقلها إلى خزانات عملاقة تحت الأرض، وتؤدي درجات الحرارة المنخفضة ليلاً إلى تبريد الماء بشكل طبيعي.

ومع ساعات الظهيرة، تقوم المضخات، التي تعمل بالطاقة الشمسية، بدفع هذه المياه عبر أنابيب صغيرة تمر أمام المراوح، من أجل توليد الهواء البارد مع تيار منعش يصعد إلى الأعلى عبر فتحات صغيرة في الأرضية والمدرجات.

ويمكن لشبكة القنوات في إشبيلية، أن تخفض درجات الحرارة المحيطة بما يصل إلى 10 درجات مئوية باستخدام الهواء والماء والطاقة الشمسية فقط، بجانب المساحات الخضراء والأشجار والمناطق المظللة؛ ما يساعد على تبريد المناطق المحيطة.

وفي مصر أعيد إحياء التقنيات الطبيعية القديمة على يد شيخ المعماريين المصريين حسن فتحي، الذي حكى في كتابه "عمارة الفقراء"، عن تجربته مع قرية القرنة بمدينة الأقصر (جنوب البلاد).

في أربعينيات القرن الماضي، قرر فتحي أن يشيد القرية من خامات بيئية محلية، ويزينها بفنون العمارة الإسلامية والنوبية؛ حيث اعتمد بها القباب والسقوف الخشبية، والساحات المفتوحة، واستخدم في مدارس القرية ملاقف الهواء ومصيدة الريح، وهي عبارة عن مجرى للهواء يشبه المدخنة؛ ما ساهم في اعتدال درجات الحرارة بشكل كبير داخل الحجرات الدراسية؛ إذ تحولت القرنة إلى قرية تراثية بعد مرور أكثر من ٧٠ عاماً على إنشائها.

أما في قطر، فقد استعمل المهندس المعماري كمال كفراوي، في سبعينيات القرن الماضي، ملاقف الهواء في تصميم جامعة قطر، التي اختيرت ضمن أجمل 23 جامعة في العالم عام 2015؛ بسبب تميز مبانيها بأسلوب معماري يمزج الطابع العصري الحديث مع الإسلامي العريق، وفق موقع الجامعة.

وفي ظل أزمة المناخ التي يعيشها العالم، يبرز مدى الاحتياج إلى استخدام هذه التقنيات المعمارية الطبيعية للتغلب على الاحترار العالمي.