العمارة بدأت من الطين وإليه تعود.. كيف تنشئ منزلاً صديقاً للبيئة؟


فيروز ياسر
الاحد 06 اغسطس 2023 | 06:26 مساءً

ربما لقلة الموارد، أو لكونها إرث الأجداد، ظلت البيوت الطينية رمزاً للعمارة والبناء في البلدان النامية، لكن مؤخراً أدركت دول العالم أن الطين مادة صديقة للبيئة، وبديل مستدام لمواد البناء التقليدية مثل الخرسانة والصلب؛ ما يفسر احتضان المهندسين المعماريين بالبلدان المتقدمة المنازل الطينية؛ نظراً إلى بصمتها الكربونية المنخفضة وتكاليفها البسيطة.

من المؤكد أن الهندسة المعمارية الطينية في العاصمة اليمنية صنعاء ستُحلِّق بخيالك في سماء الهندسة، فريدة من نوعها لدرجة أن المدينة تم الاعتراف بها موقعاً للتراث العالمي لليونسكو. وتقول المؤسس المشارك لمؤسسة دوعن للعمارة الطينية سلمى الدملوجي، إن المباني التي عمرها آلاف السنين معاصرة، ولا تزال المباني القديمة مأهولة بالسكان حتى اليوم، ومعظمها مساكن خاصة.

الدملوجي ترجع عدم فقدان المباني الطينية جاذبيتها إلى كونها معزولة ومستدامة وقابلة للتكيف للاستخدام الحديث، معلقةً بقولها: "المهندسون المعماريون حالياً بجميع أنحاء العالم يسعون إلى تشييدٍ مبان مستدامة تتحمل الأحداث المناخية القاسية، كالفيضانات المفاجئة والحرارة الشديدة"، وفقاً لـ"بي بي سي".

داخل مدينة "جيني" الواقعة في وسط جمهورية مالي، تبدو هندسة معمارية طينية عظيمة؛ إذ تشتهر المدينة بمسجدها الكبير الذي يبلغ ارتفاعه نحو 20 متراً، وفي كل عام يجتمع السكان لإصلاح أساسه تحت إشراف نقابة من كبار البنائين.

المباني الطينية دافئة في الشتاء وباردة خلال الصيف والسر يكمن في الجدران الطينية التي تتمتع بكتلة حرارية عالية ما يعني أنها تمتص الحرارة ببطء وتخزنها

يتحدث أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في مدرسة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية تريفور مارشاند عن أن إعادة الطلاء بالطين هو رمز مهم للتماسك الاجتماعي، كما تتغير الهندسة المعمارية الطينية في "جيني" باستمرار؛ حيث يعيد السكان الطين ويصلحون ويعيدون بناء منازلهم؛ فالطين مرن ويستجيب للتغيرات الديموغرافية من زيادة أو خفض مساحته حسب الحاجة.

مبانٍ صحية صامدة

المباني الطينية دافئة في الشتاء وباردة بالصيف، وفقاً للمهندسين المعماريين؛ فالجدران الطينية لها كتلة حرارية عالية؛ ما يعني أنها تمتص الحرارة ببطء وتخزنها؛ ما يمنع المنزل من أن يصبح شديد الحرارة.

المهندسة المعمارية الأمريكية باميلا جيروم، تذهب إلى أن هذا النوع من المباني يقلل الحاجة إلى التكييفات المستهلِكة للكهرباء التي تزيد من غازات الاحتباس الحراري بسبب المواد المسببة للتبريد.

في تقرير عام 2021، أوصت لجنة التدقيق البيئي في بريطانيا باستخدام منتجات مستدامة وقابلة للتنفس في البناء، مثل اللصقات المصنوعة من الطين والجير والألياف الطبيعية لتحسين عزل المنازل القائمة.

أما أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة شيكاغو مارشاند سالينز، فيعطي نظرة لافتة للغاية بقوله إن المباني المكونة من الطوب اللبن تحافظ على درجات حرارة داخلية مستقرة نسبياً، على مدار ساعات اليوم بالكامل، وتقلل من مستويات الضوضاء الصادرة من الخارج أو من الجوار.

الطين أيضاً قابل للتحلل، ولا يسبب أي ضرر بيئي عند التخلص منه بشكل صحيح، كما لا يحتاج إلى طاقة كبيرة للحصول عليه؛ لأنه موجود في الأرض مقارنةً بمواد البناء التقليدية كالخرسانة والفولاذ ذات الاستهلاك العالي للطاقة؛ ما يسبب ارتفاعاً في نسبة الكربون، بحسب موقع Bamboo U.

مخاوف محدودة

رغم مميزات الطين في بناء المنازل، فإن ما يجب أخذه في الاعتبار أن الطين مادة مسامية يمكنها امتصاص الرطوبة؛ ما يؤدي إلى العفن، لكن بعض المنازل الحديثة بداخلها حواجز رطوبة وأنظمة تصريف لمنع الماء من دخول الجدران.

النمل الأبيض مصدر قلق آخر، وفقاً لما ذكره موقع Environment.co؛ لأنه يتغذى على الجدران الطينية؛ ما يؤدي إلى أضرار هيكلية ومخاوف تتعلق بالسلامة؛ لذلك يُنصَح عند بناء المنازل الطينية بإضافة مواد مقاومة للنمل الأبيض أو معالجتها بمبيدات الآفات.

من مميزات الطين قابليته للتحلل وعدم تسببه في ضرر بيئي عند التخلص منه بشكل صحيح كما لا يحتاج إلى طاقة كبيرة للحصول عليه مقارنة بمواد البناء التقليدية كالخرسانة والفولاذ ذات الاستهلاك العالي للطاقة

قد لا تكون البيوت الطينية مناسبة لجميع الظروف المناخية؛ ففي المناطق ذات الأمطار الغزيرة، قد تتآكل الجدران الطينية أو تصبح غير مستقرة بمرور الوقت. أما بالنسبة إلى الطقس الحار فقد يحدث تشقق للجدران وتتدهور بسبب التعرض لأشعة الشمس.

الكرشيف المستدام

واحة سيوة في مصر مكان للسحر والهدوء بالإضافة إلى البيئة الفريدة من نوعها التي تتمتع بها، ولعل قرية "شالي" تحديداً التي بُنيت في القرن الـ12 الميلادي، شُيدت من مادة الكرشيف، وهو الطين المشبع بالملح إذا جف يصبح شبيهاً بالأسمنت في صلابته.

إضافة إلى ذلك، فإن الأسقف مصنوعة من خشب النخيل وأوراق الزيتون لتقوية السقف ضد المطر، وواجهات المباني مطلية بنوع من الطمي الأخضر؛ ما يجعلها صديقة للبيئة.

والكرشيف حجر يتكون بشكل طبيعي على شواطئ البحيرات المالحة؛ فالجزئيات مكونة بشكل أساسي من الملح المخلوط بالطين والرمل الناعم، كما له أشكالاً غير منتظمة بأحجام مختلفة، وتتراوح عادة بين 50 و200 مم.

رغم مواد البناء المستدامة فإن التجارب كشفت وجود ضعف في البناء وعيوب وانهيارات خلال العقود الماضية؛ لهذا لا بد من تحسين خصائص مواد البناء لزيادة قدرتها على تحمل الطقس المتطرف كالأمطار الشديدة؛ وذلك حسبما ذكر موقع ساينس دايركت.

من بين تقنيات البناء المقترحة في سيوة، استخدام الخرسانة المسلحة هيكلاً رئيسياً ثم استغلال الكرشيف مادةً تُحِيط بالخرسانة مع إضافة المونة والطمي إليها؛ فهذه الطريقة من – وجهة نظر الباحثين – تُحافِظ على شكل المباني المتعارَف عليه، وتصبح مقاوِمة للتغيرات المناخية بدرجة أكبر.