منذ اللحظة الأولى التي يصل فيها مولود جديد إلى عالمنا، تصبح عملية إطعامه هي المهمة الأساسية لأمه، ويبقى الوضع اختيارياً بإرضاعه طبيعياً أو اللجوء إلى حليب صناعي. والقرار ليس سهلاً كما يبدو عليه، بل تتحكم فيه العديد من العوامل الصحية والاجتماعية، والاقتصادية.
في عالم يقتصر فيه عدد الأطفال الذين يحصلون على رضاعة طبيعية خالصة في الأشهر الستة الأشهر من عمرهم على أقل من 50%، خصصت الأمم المتحدة الأسبوع الأول من شهر أغسطس من كل عام للتوعية بأهمية الرضاعة الطبيعية، والتشجيع عليها.
هذه النسبة تنخفض إلى 33% فحسب من الأطفال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفقاً لإحصائيات منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف".
الرضاعة الطبيعية
رضاعة صديقة للبيئة
أهمية الرضاعة الطبيعية لا تقتصر على كونها الغذاء الأفضل للطفل، بل الاعتماد عليها يحمي البيئة كذلك؛ وذلك بحجم الانبعاثات المحدود للغاية الذي تسببه، على عكس استهلاك الحليب الصناعي الذي يزيد معدلات استنزاف الموارد.
عادةً ما تعتمد عملية إنتاج البدائل على اللبن القادم من مصادر حيوانية، علاوة على الحاجة إلى التعبئة وعمليات النقل، حتى قُدِّرت انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن تصنيع الكيلو الواحد بـ14 كجم، علاوة على آلاف اللترات من المياه المستخدمة لإعداده.
خلال العقدين الماضيين، زادت مبيعات حليب الأطفال لأكثر من الضعف، لكنها خلقت أزمة مخلفات جديدة، وصلت إلى أكثر من 550 مليون طن من العبوات، وما يزيد عن 360 ألف طن من الورق، وفقاً لإحصائيات 2019.
هناك مكونات أخرى تضاف إلى تركيب اللبن الصناعي تزيد من الأثر البيئي للأمر؛ فزيت النخيل يرتبط إنتاجه بتدمير أجزاء كبيرة من غابات العالم حتى تخطت مساحة مزارعه 27 مليون هكتار، أي ما يعادل مساحة دولة نيوزيلندا.
وللمقارنة بين تأثير الأمرين، أجرى باحثون من السويد وبريطانيا – بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية – دراسة في 4 دول بمناطق مختلفة من العالم؛ هي: بريطانيا، والبرازيل، والصين، وفيتنام، ليكتشفوا أن الاعتماد على اللبن الصناعي أدى إلى انبعاثات أكبر بفارق يصل إلى أكثر من 50%.
على العكس، فإن إرضاع الطفل طبيعياً لمدة 6 أشهر كاملة، يمنع انطلاق كمية من الانبعاثات قد تتخطى ما يعادل 150 ألف كجم من ثاني أكسيد الكربون؛ أي ما يعني اختفاء أكثر من 77 ألف سيارة، وفقاً لاحتساب الأثر في المملكة المتحدة.
لبن صناعي صديق للبيئة؟
خلال السنوات الماضية، انضمَّت شركات بدائل اللبن إلى رحلة التحول إلى الاستدامة التي تخوضها مختلف القطاعات حول العالم.
في دراسة بريطانية أيرلندية نشرتها دورية The Journal of cleaner production، حاول العلماء الإجابة عن سؤال مُلِحٍّ: هل تَحوُّل شركات بدائل اللبن إلى استخدام الطاقة المتجددة سيجعلها صديقة للبيئة بالدرجة نفسها التي تتمتع بها الرضاعة الطبيعية؟
العلماء قارنوا بين الانبعاثات التي جرى منعها من جراء لجوء شركات بدائل اللبن في أيرلندا إلى استخدام الغاز المتجدد، بدلاً من الغاز التقليدي، وبين الانبعاثات التي جرى منعها بالوصول إلى المعدلات العالمية المطلوبة للرضاعة الحصرية وهي 50%، لترجح المعايير البيئية كفة الخيار الثاني.
والغاز المتجدد هو الميثان الحيوي الذي يمكن إنتاجه من المخلفات العضوية، والهيدروجين المُنتَج عبر طاقة متجددة.
الباحثون رأوا أن عمليات إزالة الكربون التي بدأت شركات بدائل لبن الأمهات في تنفيذها، قد تمنحها المزيد من القبول الاجتماعي، وأوصوا بأن تكون قضية دعم الرضاعة الطبيعية جزءاً من قضية الصحة العامة والعدالة المناخية.
الأسباب الصحية ليست الوحيدة التي تتدخل في قرار الأمهات، بل هناك عوامل اقتصادية؛ فرغم التكاليف التي قد يسببها الاعتماد على اللجوء إلى اللبن الصناعي، فإن خيار الرضاعة الطبيعية قد لا يكون متاحاً أمام الأمهات الفقيرة، وهو الأمر الذي رصدته إحصائيات في عدة دول.
الرضاعة الطبيعية والفقر
تشير مؤسسة "Black Health Matter" الأمريكية إلى أن نسبة الأمهات اللاتي يتمكنَّ من إرضاع أطفالهن حتى الشهر السادس ممن يعشن تحت خط الفقر، تقتصر على 38%، بينما ترتفع النسبة إلى أكثر من 65% بالنسبة إلى الأمهات الغنيات، وهو الأمر الذي يمكن تغييره من خلال عدة وسائل؛ من بينها إطالة إجازات الأمومة، وتوفير أوقات الراحة للرضاعة خلال العمل.
وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن عدد السيدات العاملات اللائي لا يستفدن من إجراءات حماية الأمومة في العالم يزيد عن نصف مليار سيدة.
التغير المناخي والرضاعة الطبيعية
الآثار الناتجة عن التغيرات المناخية، مثل الجفاف، تعيق كذلك عمليات الرضاعة الطبيعية، وهو ما حدث مع "نيما" السيدة الصومالية التي عجزت عن إرضاع طفلتَيها التوأم إثر المعاناة من الجوع الشديد لتُفارِقا الحياة سريعاً، بالتزامن مع أسوأ موجة جفاف شهدتها البلاد منذ عقود.
الأمم المتحدة حذَّرت من أن نسبة الأمهات اللاتي يعانين الجوع زادت بفارق 25% خلال منذ عام 2020، في الدول التي تحتل المراكز الـ12 الأولى في قائمة الدول الأكثر تضرراً من سوء التغذية لأسباب مختلفة منها الجفاف المستمر.
الأمن الغذائي الذي تهدده أزمة المناخ، يلعب دوراً هاماً كذلك في معدلات الرضاعة الطبيعية؛ إذ كشفت دراسة كندية أجريت في 2018 أن نحو 50% من الأمهات اللاتي يعانين نقص الطعام، يوقفن الرضاعة الطبيعية الحصرية مبكراً، بفارق شهرين على الأقل مقارنة بالأخريات. وفي الوقت الذي لم يتمكَّن فيه الباحثون من تحديد الأسباب، ظهرت كميات السعرات المرتفعة من الطعام التي تحتاجها الأمهات المرضعات بين أحد الأسباب المحتملة.