كلما اشتدت حرارة الصيف زاد الإقبال على ارتياد الشواطئ؛ بحثاً عن جو أكثر لطفاً واعتدالاً، بعيداً عن قيظ المناطق الأخرى، لكن زيادة درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، يزيدان شدة المواجهة بين الأمواج المتلاطمة والسواحل التي تَضعُف مقاومتها وتتآكل عبر الزمن.
ومن المتوقع أن تشهد ما يصل إلى 15% من الشواطئ الرملية في العالم درجة شديدة من التآكل بحلول عام 2050، وترتفع النسبة إلى 30% في المناطق الساحلية الشديدة الانخفاض.
الخريطة العربية
تحتل منطقة المغرب العربي المركز الثاني في معدلات تآكل الشواطئ حول العالم بمعدل 15 سنتيمتراً سنوياً، وفق ما تم رصده خلال الفترة بين عامي 1984 و2016، وهو أعلى من ضعف المعدل العالمي بسبعة سنتيمترات، ولا يتجاوزها سوى منطقة جنوب آسيا.
ومن بين دول المغرب العربي، تتصدر تونس قائمة البلدان الأكثر تضرراً بمعدل تآكل يبلغ 70 سنتيمتراً تقريباً، تليها ليبيا، وفقاً لبيانات البنك الدولي. وعلى سبيل المثال، شهدت المناطق الأكثر معاناةً في غنوش التابعة لولاية قابس تضرُّر 80% من الأعمال التجارية الموجودة هناك ومن بينها المطاعم والمقاهي.
وفقاً لموقع "يورونيوز"، تُمثِّل التكلفة الاقتصادية المتعلقة بالظاهرة فيما يخص خسائر المباني، ومنها القريبة من الشاطئ، 2.8% من إجمالي الناتج المحلي في الدولة العربية.
يتوقع تآكل 13–15% من الشواطئ الرملية في العالم تآكلاً شديداً وترتفع النسبة إلى 30% في المناطق الساحلية الشديدة الانخفاض بحلول عام 2050
في حديثها إلى "جرين بالعربي"، قالت الأستاذة في جامعة روان نورماندي الفرنسية والمتخصصة في علم فيزياء المحيطات الدكتورة إيمان تركي؛ إن 85% من سكان تونس يعيشون بالقرب من الساحل، وهو ما يزيد على ضِعف المُعدَّل العالمي الذي يقتصر على 40%.
ولفتت إلى إحصاءات وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي التونسية التي تكشف أن ما يقرب من نصف الشواطئ في الدولة العربية، مصنفة ضمن المناطق المهددة بشدة بسبب ظاهرة التآكل.
"تركي" ضربت مثالاً بما حدث في منطقة الحمامات – وهي وجهة سياحية شهيرة – إذ تراجعت مساحة الشاطئ بنسبة 50% بين عامي 2006 و2019؛ ما يعادل فقدان نحو 24 ألف متر، أو ما بين 3 و8 أمتار كل عام، بحسب ما يشير إليه خبراء البنك الدولي.
تشير الباحثة إلى أن العوامل البشرية والطبيعية مجتمعةً تتسبَّب في تفاقُم أخطار الفيضانات وتآكل السواحل، وأن النشاط الاقتصادي والاجتماعي المُفرِط على الساحل التونسي زاد من آثار ارتفاع مستوى سطح البحر، ومن ثم أثَّر تآكل الشواطئ على مصادر العيش للسكان، بما في ذلك أنشطة الصيد، والأنشطة الزراعية والسياحية.
شاركت "تركي" المتخصصة في مجال ديناميات الأنظمة الساحلية في مشروعات علمية دولية عديدة، وتعاونت كذلك مع مؤسسات تونسية حكومية وبحثية في هذا المجال، بما في ذلك الإشراف على رسائل بحثية متعلقة بمجال التغيرات المناخية للعديد من الباحثين في جامعات تونسية، وعملت على تطوير عدة أنشطة تدريبية وبرامج تعليمية للدارسين التونسيين لتوفير أدوات يمكنهم الاعتماد عليها في دراسة الموضوعات البيئية في البلاد، وفقاً لها.
أهمية السياحة
المتخصصة في علم فيزياء المحيطات مضت في حديثها بقولها إن السياحة تمثل 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة التونسية، و90% من الأنشطة السياحية في هذا البلد تقع على السواحل، وهو ما يُعرِّضها لأخطار ارتفاع مستوى سطح البحر.
واستجابةً لتلك التأثيرات، جرى اللجوء إلى بعض الحلول لحماية السواحل، لكن غالباً ما يتم تنفيذها بطريقة غير كافية لمواجهة التآكل، ومن ثم فإن تونس خسرت ما يزيد على 90 كيلومتراً من الشواطئ؛ إما بسبب التآكل أو بسبب بناء دفاعات صناعية لمواجهته، ومن بين 570 كيلومتراً من الشواطئ الموجودة في تونس، هناك 190 كيلومتراً معرضة للاختفاء، وفقاً لـ"تركي".
لكنَّ هناك جانباً آخر من الأمر، وهو حجم آثار الأنشطة التي تجري على الشاطئ المقابل من البحر المتوسط في الجانب الأوروبي؛ إذ تشير "تركي" إلى زيادة خطر تفاقم آثار التغيرات المناخية في تونس بسبب ما يحدث في البلدان الأخرى؛ بدايةً من انطلاق كميات أكبر من الانبعاثات الكربونية، أو بسبب التلوث، بما في ذلك التلوث البلاستيكي. وكل ذلك يجتمع مع الأسباب المحلية، مثل الصيد الجائر، والنشاط السياحي، ليؤدي في النهاية إلى زيادة المخاطر.
وترى أن تركُّز غالبية السكان والبنية التحتية على ساحل البحر المتوسط، جعل البلد أكثر هشاشةً في مواجهة آثار ارتفاع مستوى سطح البحر والتآكل وتسرُّب المياه المالحة، وعدم استقرار حوض المتوسط، والضعف الشديد للمناطق الساحلية في المنطقة، في وقت لا تزال فيه استراتيجيات التكيف مع التغير المناخي على السواحل التونسية محدودة.
،،، السياحة تمثل 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي لتونس و90% من الأنشطة السياحية في هذا البلد تقع على السواحل ما يُعرِّضها لأخطار ارتفاع مستوى سطح البحر،،،
وبالنظر إلى الآثار الطويلة المدى، فإن من المتوقع أن تخسر تونس بسبب غمر المياه 16 ألف هكتار من الأراضي الزراعية تقريباً في المناطق الساحلية المنخفضة، و700 ألف هكتار تقريباً في المناطق العمرانية.
برامج عدة جرى تنفيذها في منطقة شمال أفريقيا لحماية السواحل، لكنَّ مشروعاً بحثياً جديداً يُجرَى على الجانب الآخر من المتوسط قد يُحدِث – بحسب القائمين عليه – فارقاً في معركتنا أمام البحر الثائر.
الدراسات المتعلقة بالطريقة الجديدة لا تزال في مرحلة البداية، وما زال أمام المشاركين الكثير لتطبيق الأمر على أرض الواقع
طاقة الأمواج
هذا المشروع هو MetaReef ويقوده علماء معهد علوم البحار التابع للمجلس الوطني للأبحاث في إيطاليا، ويهدف إلى التحكم في الأمواج من أجل تقليل معدلات تآكل الشواطئ، عن طريق تركيب مجموعة من البندولات في قاع المياه.
تتمتع مكونات هذه البندولات بكثافة أقل من كثافة المياه، وعندما تمر الأمواج فوقها يبدأ كاشف الموجات الهرتزية في الاهتزاز، وامتصاص طاقة هذه الأمواج، فيتراجع معدل تآكل الشواطئ.
وفقاً لموقع Interesting Engineering، لا يزال المشروع في مراحله الأولى، إلا أن النتائج التي توصَّل إليها الباحثون حتى الآن واعدة، لدرجة جعلتهم يشيرون إلى إمكانية تصميم أداة أكثر تطوراً يمكن استخدامها لحماية السواحل المهددة، وكشفت نتائج التجربة الأولية عن إمكانية تقليل سعة الأمواج بنسب تصل إلى 80%.
يُفسِّر الباحث في جامعة تورينو الإيطالية وأحد المشاركين في المشروع "ماتيو لورينزو"، في حديثه إلى "جرين بالعربي"، كيف يؤدي تكرار العواصف، وزيادة متوسط ارتفاع الأمواج إلى زيادة التآكل بسبب تأثيرها على عملية انتقال الرواسب.
يقول الباحث إن 40% تقريباً من تعداد سكان العالم يعيشون في مساحة تبلغ 100 كيلومتر من الساحل، وترتفع الكثافة السكانية في تلك المناطق بفارق يقترب من ثلاث مرات مقارنةً بالمناطق الداخلية، مشيراً إلى أن الآثار الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم في البلدان النامية؛ لأن الإصلاح، في رأيه، يتطلب حلولاً هندسية مكلفة.
غير أن الدراسات المتعلقة بالطريقة الجديدة لا تزال في مرحلة البداية، وما زال أمام المشاركين الكثير لتطبيق الأمر على أرض الواقع، على حد قول "لورينزو".
وحاول الباحثون، خلال مرحلة جمع البيانات، التي أنهاها الباحثون منذ عام تقريباً، إبقاء النظام الذي يعملون عليه بسيطاً حتى يمكنهم فهم العمليات الفيزيائية المسؤولة عن إضعاف الأمواج.
وعن الفترة التي نحتاجها لتطبيق الفكرة على نطاق واسع، يتوقع "لورينزو" أن الأمر يحتاج إلى عامين على الأقل، مشيراً إلى اثنين من المشروعات التي يعملون عليها: (الأول) نموذج لمختبر ثلاثي الأبعاد يتحكم به الباحثون، و(الآخر) تجربة محتملة في البحر الأدرياتيكي الذي يفصل إيطاليا عن شبه جزيرة البلقان.
البندولات والمتوسط
"لورينزو" يعتبر البحر المتوسط من المناطق المثالية التي يمكن استخدام طريقة البندولات بها؛ فهو حوض مغلق، ومن ثم فإن حركة الأمواج التي تحدث خلال العواصف التي يشهدها لا يمكن مقارنتها بتلك التي تحدث على سواحل المحيطَين الهادئ والأطلسي؛ إذ يمكن للأخيرة أن تُعرِّض مرسى البندولات للخطر.
هناك فارق آخر بين مدة بقاء موجات البحر المتوسط التي تبلغ 6 ثوانٍ، وبين المحيط التي تصل إلى 9 ثوانٍ، كما يقل كذلك ارتفاع أمواج المتوسط مقارنةً بالمحيط، لكن الجهاز جرى تصميمه من الناحية النظرية ليناسب متوسط الظروف في أي نوع من أنواع البحار. الأمر يثير تساؤلاً آخَر حول مدى التأثير المحتمل للتقنية الجديدة على الأنشطة السياحية.
يتدخل الباحث هنا ليشير إلى أن السياحة وتخفيف حركة الأمواج قضيتان تسيران في الاتجاه نفسه، لافتاً إلى الإجراءات التي تتخذها المنتجعات سنوياً من أجل استعادة رمال الشواطئ لاستقبال الزوار في موسم الصيف، لكن بعد استخدام الجهاز الجديد في المستقبل، سيتطلب الأمر تكاليف أقل بكثير.
واليوم فإن التقنية الجديدة يجري تصميمها ليكون تأثيرها محدوداً على النظم البيئية، وعلى المناظر الطبيعية في المنطقة، وغالباً ما سيجري إحاطة تلك المنطقة بطوافات بحرية.
رغم التكلفة المرتفعة التي تتطلبها الدراسات اللازمة، حسب تقدير الباحث، فإن السعر المتوقع في المستقبل للجهاز الجديد سيكون منخفضاً، علاوةً على مزاياه الأخرى التي تشمل البساطة في الإنتاج والاستخدام، والتأثير البيئي المحدود؛ ما يجعل منه حلاً مثيراً للاهتمام للموانئ وإدارات المناطق الساحلية التي تعاني من تآكل حاد في شواطئها.
تُعلِّق "تركي" على مشروع Meta reef موضحةً أن تطبيقه سيكون مفيداً في البحر المتوسط المُعرَّض بشدة لخطر طاقة الأمواج، في الوقت الذي يتراجع فيه تأثير المد والجزر، مشيرةً إلى تأكيد فريق المشروع تأثيرَه المحدود على سريان المياه.
لكنها رأت أن إضعاف طاقة الأمواج عند انكسارها على عمق منخفض من المياه، سيتعلَّق فيزيائياً بحركتها وبعمليات انتقال الرواسب، وهو ما قد يؤثر على بعض الأنشطة، مثل ركوب الأمواج، منبهةً إلى ضرورة تنفيذ مجموعة من استراتيجيات التكيف وتحقيق التوازن بين الأنظمة البيئية، والأنشطة الساحلية، لكنها ترى أن حماية الشواطئ من التآكل لتقليل أخطار التعرية والغمر البحري والفيضانات تأتي على رأس الأولويات.