رغم الانتقادات.. هل يستطيع "إميلي في باريس" صناعة حلم الاستدامة الوردي؟


مروة بدوي
السبت 30 نوفمبر 2024 | 11:40 صباحاً

تنتقل "إميلي كوبر" من مسؤولة تسويق في مدينة شيكاغو الأمريكية إلى العمل في العاصمة الفرنسية "باريس"، وخلال محاولة النجاح في وظيفة أحلامها تخوض مغامرة جديدة في حياتها العملية والشخصية، وتحاول الموازنة بين العمل والصداقة والحب.. هذه باختصار الحبكة الدرامية لمسلسل "إميلي في باريس".

تبدو القصة بسيطة ومكررة، لكنها اكتسبت قاعدة جماهيرية عالمية منذ عرضها على منصة "Netflix" للمرة الأولى في عام 2020، حتى أصبح حالياً أحد أنجح مسلسلات الكوميديا ​​الرومانسية ​​​​على المنصة وأكثرها شعبية.

"المد الصاعد" لمسلسل إميلي في باريس

يقدم المسلسل نسخة خيالية من مدينة النور، حيث الحياة المليئة بالحب والانفتاح، مع إضفاء طابع مثالي على أسلوب المدينة والطعام والرومانسية المتحررة،  ويجسد شغف العالم بالثقافة الشعبية الفرنسية. 

وقد أصابت هذه "الحمى" الباريسية قطاع عريض من الجمهور حول العالم، حيث تسببت "إميلي" في تحفيز السياحة وتدفق المسافرين إلى فرنسا، وهو ما تؤكده نتائج دراسة جديدة أجراها المركز الوطني الفرنسي للسينما (CNC)، والتي أفادت بأن 38% من السياح ذكروا أن المسلسل ضمن أسباب زيارتهم لباريس، وأنهم شعروا برغبة في السفر والتسوق في شارع الشانزليزيه بعد مشاهدته.

الأمر لا يقتصر على الجمهور فحسب، إذ لفتت سيدة فرنسا الأولى بريجيت ماكرون  الأنظار بظهورها بشخصيتها الحقيقية، خلال أحداث الموسم الرابع من المسلسل، حيث قدمت دوراً في مشهد قصير تلتقط فيه صورة شخصية مع "إميلي" بأحد المطاعم، في إشارة إلى تأييد زوجة الرئيس الفرنسي للمسلسل وإعجابها به. 

أما في أروقة السياسة، فلقد اشتعلت مواجهة دبلوماسية بين الجارتين، إيطاليا وفرنسا، على خلفية سفر "إميلي" إلى روما وانتقال أحداث المسلسل إلى العاصمة الإيطالية خلال الحلقات الأخيرة من الجزء الرابع، وسط توقعات بتصوير الجزء الخامس في روما.

وقد أثار ذلك استياء الرئيس إيمانويل ماكرون الذي أعلن لصحيفة فارايتي الأمريكية أنه "سيقاتل بشدة" لإبقاء المسلسل في فرنسا، وعلى الجانب الآخر من جبال الألب فقد تحمس عمدة روما، روبرتو غوالتييري، وكتب عبر حسابه على موقع "إكس": "عزيزي إيمانويل ماكرون، كن مطمئناً، "إميلي" تبدو رائعة حقاً في روما، ولاتنسى، لا يستطيع أحد أن يتحكم في الأمور المتعلقة بالمشاعر والقلب، اجعلها هي -يقصد "إميلي"- من تختار بين المدينتين".

"إميلي" والمعضلة المناخية 

وسط هذا الصخب، ما زال المسلسل يثير الانتقادات بسبب كليشيهات باريس والصورة النمطية التي ظهرت بها عاصمة الحب داخل الأحداث؛ حيث تبدو دائماً عبارة عن مجموعة من الشوارع النظيفة الخالية من القمامة أو فضلات الحيوانات، مع ساحات ملونة تخلو من المشردين وسط نهر السين أزرق اللون، وهي صورة تفتقر تماماً للواقعية، وقد وصفها البعض بالخيال الوقح! 

وفي الحقيقة، هذه النمطية والانفصال عن الواقع في تقديم صورة الحياة داخل المدن بالدراما ليست قضية ثقافية أو مجتمعية فقط بل أيضاً مناخية.. فهل ما زالت مدينة النور تبدو كما هي تحت ظلام أزمة المناخ؟ 

كتب نائب رئيس بلدية باريس، والمسؤول عن الأماكن العامة ووسائل النقل في المدينة، ديفيد بيليارد، مقال رأي نشره العام الماضي في مجلة Libération الفرنسية عن رفضه للمسلسل، ووصفه بـ"المزعج" لأنه يتجاهل بالكامل القضايا المتعلقة بالمناخ.

لقد جاءت صورة باريس في المسلسل" كاريكاتيرية" -حسب وصف بيليارد-؛ مجرد مجموعة من الأحياء الراقية التي يقطنها الأغنياء، مع التراث المعماري الموحد، حيث قال بيليارد: "إنها باريس كما تبدو في إنستجرام؛ بألوان لا تشوبها شائبة وإطلالات مثالية، تمحو تماماً القيود التي تفرضها قضية المناخ وندرة الموارد".

 وتعجب "بيليارد" من صورة باريس "المنتعشة" داخل المسلسل، بينما في الحقيقة تجتاحها موجات الحر تاريخية، وصلت إلى مستويات كارثية في السنوات الأخيرة، ثم تساءل: "كيف تتمتع "إميلي" بحياتها في شقة بأحد الطوابق العليا في الحي اللاتيني؟ فهذه الشقق يسكنها عادة أفقر الناس، وتتحول إلى أفران لا تطاق في الطقس الحار!".

وأضاف نائب رئيس بلدية باريس: "وبينما يمكننا خفض درجات الحرارة في هذه الشقق، عبر اعتماد حل بسيط هو طلاء الأسطح بطلاء أبيض عاكس، يرفض الجميع التخلي عن الواجهات الملونة الباريسية بسبب الحنين إلى المدينة النمطية، في الوقت الذي يتعين فيه وضع التكيف مع التغير المناخي في المرتبة الأولى ضمن أولوياتنا جميعاً". 

الموضة ونمط الحياة الاستهلاكي

تعرض المسلسل لانتقادات كثيرة بسبب الترويج للاستهلاك وأنماط الحياة الفاخرة "عالية الكربون"، التي لا تتوافق مع اتفاقية باريس للمناخ، والإطلالات الأنيقة التي تعيد إلى الواجهة قضية صناعة الأزياء، باعتبارها من أكثر الصناعات تلويثاً واستهلاكاً للموارد الطبيعية.

الموسم الرابع.. تصحيح مسار الاستدامة قليلاً

يقدم هذا الموسم الذي عرض مؤخراً بصيصاً من الأمل في موضوع الاستدامة، حيث حاول دمج بعض المفاهيم التي تعكس القيم البيئية العالمية في أحداث الحلقات:

الموضة الدائرية والإكسسوارات المعاد تدويرها

في الحلقة الأولى، تزور ميندي، صديقة إميلي المقربة، متجر تابع لإحدى المنصات العالمية الرائدة عبر الإنترنت للأزياء المستعملة من أجل بيع فستانها. 

المنصة التي  تشتهر بدورها في نشر الموضة الدائرية، تسمح للناس بشراء وبيع سلع فاخرة مستعملة، حتى إنها ابتكرت مجموعة "From Paris with Love"، والتي تقدم للمعجبين فرصة شراء أنماط مستوحاة من المسلسل لكنها مستعملة.

كما تضمن الموسم الرابع إعادة إحياء مجموعة متنوعة من الإطلالات القديمة و الأرشيفية لبعض أبطال المسلسل، ما يُظهر للمشاهدين أن الموضة البطيئة  تستحق الاهتمام.

وفي مشهد آخر تشرح إحدى المتدربات مع إميلي في العمل، وظيفتها السابقة في شركة ناشئة تقدم خدمات تأجير الملابس، لحفلات الزفاف أو الكوكتيل أو مناسبات العمل وتوضح المتدربة أهمية هذه الملابس المستأجرة في تقليل هدر الأزياء والنفايات، كما تلقي المتدربة الضوء على السياسات البيئية والأخلاقية للشركة واهتمامها لإعادة التدوير، و رعاية الحيوانات.

في الحلقة الـ5، تتزين إميلي بحقيبة مصنوعة من نفايات العنب المعاد تدويرها، الحقيبة المصممة من قبل شركة الباريسية "INCXNNUE"، وتركز على النمط الحرفي الذي يضع الابتكار والاستدامة في المقام الأول. 

للوهلة الأولى، قد تبدو كل هذه اللقطات مجرد مشاهد أنيقة أو نوع من التسويق الذكي، لكنها في الحقيقة مثال بارز على كيف يمكن أن تقود الدراما ووسائل الإعلام التحولات الثقافية والبيئية بشكل غير مباشر.

الموضة والإطلالات الأنيقة هما سبب أساسي في نجاح المسلسل، وتحقيقه قاعدة جماهيرية عريضة من النساء، اللاتي يتبعن خُطى بطلات "إميلي في باريس" على طريق الموضة.

ابتعاد شخصيات المسلسل عن المشاهد النمطية للبطلة التي تتسوق من أغلى العلامات التجارية حتى تكون مؤثرة في عالم الفاشون، وتتجه إلى خيارات مستدامة وأخلاقية تلائم عصر المناخ، يلهم جمهور العمل ويجعلهم يبتعدون عن الموضة السريعة ويعتمدون نمطاً شرائياً أكثر وعياً من خلال منصات الأزياء المستعملة مثلاً، والتي تقلل من الطلب على إنتاج الملابس الجديدة وتوفر الموارد وتخفض الانبعاثات.

ومع الوقت وتغير السلوك الشرائي للجمهور ستجد صناعة الأزياء الراقية نفسها مجبرة على تبني مفاهيم الاستدامة والمسؤولية البيئية والأخلاقية.

ربما من الصعب أن تتخلى إميلي عن حياتها "الفاخرة"، لكنها من المؤكد  تستطيع أن تغير مفاهيم صناعة الموضة السريعة، التي تتمسك بخلق عالم من الأناقة المشبوهة، وربما يوماً ما تستطيع إميلي تحقيق حلم الاستدامة الوردي، الذي يجمع بين موضة تحترم الطبيعة والأناقة معاً.