جريمة صيادي الشمال.. موسم القتل العمد للحيتان


مروة بدوي
الاحد 29 سبتمبر 2024 | 11:02 مساءً
صيد الحيتان
صيد الحيتان

خلال أشهر الصيف كل عام، تتحول مياه شمال المحيط الأطلسي إلى بركة من الدماء.. دماء المئات من جثث الحيتان الملقاة على الشواطئ؛ حيث تتحول هذه المنطقة إلى ما يشبه "مثلث رعب" يقضي على أسراب الحيتان. وتتكون رؤوس أضلاع هذا المثلث من النرويج وجزر فارو وأيسلندا، فما الذي يحدث في بلدان الشمال الأوروبي؟

النرويج.. اصطياد 15 ألف حوت

يُقتل أكبر عدد من حيتان العالم سنوياً داخل مياه النرويج. وخلال الموسم الماضي تم اصطياد نحو 580 حوتاً ليصل إجمالي الحيتان التي قُتِلت على يد الصيادين النرويجيين إلى أكثر من 15 ألف حوت على مدى الأربعين سنة الأخيرة.

وحسب ما ذكرته جمعية المحافَظة على الحيتان والدلافين الشريك المؤسس لميثاق الأنواع المهاجرة الذي يمثل جزءاً من برنامج الأمم المتحدة للبيئة؛ تحظى عمليات الصيد بدعم كبير من الحكومة النرويجية التي تسعى باستمرار إلى كسب أسواق جديدة لبيع منتجات الحيتان، وترويج لحوم الحوت لأطفال المدارس، وتقديم برغر الحيتان للشباب في المهرجانات، كما يتم تقديمها للسياح في المطاعم وأثناء رحلات الكروز.

ووفقًا لموقع وزارة التجارة والصناعة ومصايد الأسماك النرويجية، يعتبر صيد الحيتان جزءاً من إدارة الموارد في النرويج التي تقوم على مبدأ الاستخدام المستدام، ويدعي مسؤولو الحكومة النرويجية أن عملية الصيد تعتبر "شيئاً طبيعياً" ومصدراً غذائياً جيداً.

صيد الحيتانصيد الحيتان

أيسلندا.. حيتان مهددة بالانقراض تُقتَل بطريقة بطيئة ومؤلمة

217 من حيتان المنك و209 من حيتان الزعانف، قُتِلَت داخل المياه الإقليمية لأيسلندا منذ عام 2019. والمشكلة الكبرى أن أيسلندا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تصطاد الحوت الزعنفي ثاني أكبر حيوان على سطح الأرض، رغم أنه مدرج على القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض الصادرة عن الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة.

خلال العقد الأخير من القرن العشرين، توقفت أيسلندا عن الصيد التجاري للحيتان، لكنها عادت واستأنفت الأمر مرةً أخرى، وتُحدِّد الحكومة الحصص السنوية المقررة لصيد الحيتان.

صيد الحيتانصيد الحيتان

وقد صدر تقرير مثير للقلق بشأن رعاية الحيوان بالبلاد، وكشف أن 40% من الحيتان تعاني من الموت البطيء، وتستغرق نحو 11 دقيقة حتى تموت بعد عملية الصيد، وهو ما يعد انتهاكًا لمعايير حماية الحيوان.

هذا التقرير دفع حكومة أيسلندا إلى إلغاء موسم صيد الحيتان الزعنفية منتصف العام الماضي، لكن بعد توقف دام شهرين فقط تراجعت الحكومة عن قرارها، وألغت الحظر مع تأكيد ضرورة تطبيق توجيهات جديدة أثناء عمليات الصيد، وهي سرعة القضاء على الحيتان للحد من إحساسها بالألم، خوفاً من انتهاك قانون البلاد المتعلق برعاية الحيوان! لكن الصيد ما زال مستمراً.

جزر فارو: قتل الحيتان إحياء التراث!

تقتل جزر فارو، التي تقع في منطقة شمال المحيط الأطلسي، مئات الحيتان سنوياً، في تقليد موسمي يُمارَس منذ مئات السنين يسمى "جريند"؛ حيث يحيط الصيادون بالحيتان والدلافين بالقوارب، ويدفعونها إلى خليج ضيق، ثم يقضون عليها بالسكاكين، ويتم سحب أجسادها إلى الشاطئ لتوزيعها على السكان المحليين من أجل الغذاء والحصول على الطاقة، وإحياءً لتقاليد التراث القديم.

يتراوح عدد الحيتان التي يتم اصطيادها سنوياً بالجزر في المتوسط 800 حوت، إلا أنه في موسم 2021 "الدامي" قُتل ما يزيد عن 1400 من الدلافين في يوم واحد. وتدافع حكومة جزر الفارو عن هذا التقليد بأنه نشاط مستدام ومنظم رغم أن الجميع يراه تقليداً وحشياً لا مبرر لاستمراره إلى الآن.

صيد الحيتانصيد الحيتان

تاريخ قتل الحيتان

سفك دماء الحيوانات البريئة هو للأسف ممارسة تقليدية توارثتها الدول الاسكندنافية؛ حيث بدأت صناعة صيد الحيتان في العصور الوسطى، ثم ازدهرت لعدة قرون وأضحت صناعة مهمة يقوم عليها نصف اقتصاد العالم القديم.

كان النرويجيون من أوائل صائدي الحيتان في العالم. وأما الهدف الأول فقد كان "right whale" أو حوت شمال الأطلسي الصائب، وهو نوع بطيء الحركة سهل الانقياد، يسبح بالقرب من القوارب، ويُعتقد أنه حصل على اسمه "الحوت الصائب" لهذه الأسباب، باعتباره "الحوت المناسب للصيد"، وتليه حيتان العنبر والحيتان المقوسة الرأس التي تم اصطيادها من أجل لحومها وزيوتها.

التكنولوجيا أتاحت أساليب أقسى للصيد

لم يكن اصطياد الحوت الزعنفي من السهل على صائدي الحيتان؛ نظراً إلى حجمه وسرعته، لكن مع بداية الصيد الآلي تغير الوضع وبات صيداً سهلاً قبالة سواحل النرويج وأيسلندا وجزر فارو.

تعود ممارسة صيد الحيتان في النرويج تحديداً إلى عصر الفايكنج في القرن التاسع، وهو العصر الذي يريد مؤيدو صيد الحيتان إحياء تقاليده القديمة، لكن في القرن التاسع عشر أصبحت النرويج أكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية، وطوَّرت معداتها التي سمحت بصيد أكثر كفاءةً وقسوةً، واستمرت الصناعة في التوسع.

وبحلول منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، سيطرت النرويج على صناعة صيد الحيتان العالمية؛ حيث استحوذت على أكثر من نصف الحيتان، وأنتجت حصة كبيرة من زيت الحوت في العالم.

صيد الحيتانصيد الحيتان

ومع مرور الوقت تحول صيد الحيتان إلى فكرة راسخة في الثقافة الشمالية، يعتبرها البعض وسيلة للحفاظ على الهوية والموروث القديم.

يحكي جوني زويك مخرج الفيلم الوثائقي"Breach"، الذي يتناول صناعة صيد الحيتان التجارية في أيسلندا، أن السبب وراء دعم هذه الصناعة وتأييد بعض الشعب الأيسلندي لها، هو الشعور القومي.

الأيسلنديون الذين حصلوا على الاستقلال، وأعلنوا قيام الجمهورية عام 1944، ينظرون إلى الحيتان كمورد من مواردهم الطبيعية، ولا يريدون أن يتدخل الناس في شؤونهم أو طريقة استغلالها والاستفادة منها.

دور الحيتان في حماية البيئة

صيد الحيتان يساهم في تدمير النظام البيئي البحري؛ حيث تلعب دوراً رئيسياً في تنظيم دورة الكربون وعزله عن الغلاف الجوي؛ لأن فضلات الحيتان الغنية بالعناصر الغذائية يمكن أن تحفز نمو العوالق النباتية، ومن ثم تزيد عمليات التمثيل الضوئي وما ينتج عنها من تخزين الكربون وإنتاج الأكسجين.

علاوة على ذلك، تمثل العوالق النباتية مصدراً مهماً لغذاء الحيوانات البحرية الصغيرة والأسماك، وهو ما يعني أن الحيتان تمثل جزءاً من الحفاظ على التنوع البيولوجي في السلسلة الغذائية.

تقلل عمليات القتل المتكررة للحيتان الحوامل فرص التكاثر، وهو ما يعني أن أعداد الحيتان مهددة على المدى الطويل، وهو ما يعرض النظام البحري بالكامل للخطر.

صيد الحيتانصيد الحيتان

صيد الحيتان في القانون

صدر قرار بوقف صيد الحيتان عالمياً عام 1982، ودخل حيز التنفيذ عام 1986، وتلتزم بهذا الحظر الدول الأعضاء الـ88 في اللجنة الدولية لصيد الحيتان، وهي هيئة تطوعية وافقت الدول الأعضاء فيها على عدم صيد الحيتان من أجل الربح، لكن أيسلندا والنرويج قدمتا اعتراضات أو تحفظات على هذا القرار.

وعندما تم إدراج حيتان الزعانف في ملحق اتفاقية التجارة الدولية للأنواع المهددة بالانقراض، باتت تلك الحيتان محميةً من القتل العمد من قِبَل المُوقِّعين على الاتفاقية، ولكن هذا لا ينطبق على أيسلندا والنرويج؛ بسبب اعتراضهما السابق على القرار، حسب ما ذكر الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة.

ومن ثم فإنه نظراً إلى الحظر العالمي المفروض على صيد الحيتان التجاري، فإنه يعد أمراً غير قانوني في معظم أنحاء العالم، لكن النرويج وأيسلندا ترفضان هذا الحظر، ولا تزال عمليات صيد الحيتان التجارية مسموحاً بها وقانونية من قِبَلهما حتى للأنواع المهددة بالانقراض.

وبينما ألغت أيسلندا عضويتها في اللجنة الدولية لصيد الحيتان عام 1992، لا تزال النرويج عضواً فيها مع الاستمرار في اصطياد حوت المنك في ظل "التحفظ" على الحظر العالمي.

أما استهداف الإناث الحوامل من الحيتان نتيجة بطء حركتها، فما تفعله دول الشمال يشكل انتهاكاً واضحاً للمبادئ التوجيهية الصادرة عن المنظمة العالمية لصحة الحيوان، بشأن صيد الحيوانات المخصصة للاستهلاك البشري، التي تَشترِط أن يكون الجنين فاقداً للوعي قبل إخراجه من رحم الأم.

بالإضافة إلى ذلك، يتعارض صيد الحيتان مع قوانين رعاية الحيوان والحياة البرية، التي تنص على عدم تعريض الحيوانات لمعاناة غير ضرورية أثناء القتل، وهو ما يتنافى مع طبيعة الصيد على متن السفن المتحركة؛ لأنه غالباً ما تعاني الحيتان وتموت بطريقة بطيئة ومؤلمة.

صيد الحيتانصيد الحيتان

ألا يكفي قتل 3 ملايين حوت؟!

في عالم يتأثر بشكل متزايد بتغير المناخ، لا يمكن تقبل تدمير التنوع الطبيعي والنظام البيئي بدلاً من حمايته، ولا يمكن التسامح مع القتل التجاري للحيتان باسم الحفاظ على الثقافة أو مراعاة الموارد الطبيعية، لكن يجب التخلي عن التقاليد الوحشية وغير المستدامة، ومنها إلغاء صيد الحيتان والسماح للطبيعة بالحفاظ على توازنها البيئي، وإلزام الدول بالحظر العالمي وتنفيذ عقوبات دولية على إفساد البيئة.

وأخيراً، كيف لشعوب من أغنى الدول وأكثرها تقدماً أن تقرر الاستمرار في ممارسة صيد وقتل الحيتان بشكل غير إنساني، على الرغم من الاحتجاج الصارخ من مختلف جماعات حقوق البيئة والحيوان؟! ألا يكفي البشريةَ قتلُ ما يقرب من ثلاثة ملايين حوت خلال القرن العشرين؟!