ذوو التنوع العصبي.. مهارات فارقة في مواجهة تغير المناخ


سلمى عرفة
السبت 26 اغسطس 2023 | 06:29 مساءً
التنوع العصبي
التنوع العصبي

12 عاماً هي المدة التي احتاجتها "سوليتير" لتنجح في قراءة اسمها بشكل صحيح كسائر الأطفال، لكنها لا تزال تعجز عن إجابة سؤال بسيط مثل "ما الساعة الآن؟" رغم أنها طالت العقد الخامس من عمرها.

وسوليتير تونسيد بريطانية نجحت في تحقيق إنجازات مبهرة، أبرزها الحصول على درجتَي ماجستير من جامعتَين مرموقتَين، وتأسيس شركة تعمل في مجال حلول الاستدامة، لكن رحلتها اختلفت عن الكثير من رواد الأعمال؛ بسبب تشخيصها بعسر القراءة أو "ديسلكسيا".

يأتي ذلك بسبب اختلافات في المراكز المتعلقة باللغة في المخ؛ ما يؤدي إلى تعثُّر في القراءة وصعوبة في ربط الأصوات بالحروف والكلمات.

ويجد البالغون المصابون صعوبةً في التهجِّي، ويحتاجون وقتاً أطول للمهام التي تشمل القراءة والكتابة، ويرتكبون أخطاء خلال نطق الكلمات، وفقاً لموقع "Mayo Clinic".

ويُواجِه المصابون صعوبةً في التعامل مع الساعات التقليدية ذات العقارب، ويعتمدون بدلاً منها على الساعات الرقمية.

مصابو عسر القراءة يواجهون صعوبة في أنشطة القراءة والكتابةالتنوع العصبي

يُعرَّف التنوع العصبي بالاختلاف بين أدمغة البشر في التفاعل مع العالم المحيط بهم، لكنه عادةً ما يُستخدَم في وصف حالات بعينها تشمل عسر القراءة والتوحُّد واضطراب تشتُّت الانتباه وفرط الحركة ADHD، ومتلازمة توريت، وغيرها.

ومؤخراً، بدأ الحديث عن كيفية الاستفادة من المهارات المختلفة لذوي التنوع العصبي في معركة مواجهة التغيرات المناخية، لا سيما وأن عقولهم غير التقليدية تمنحهم نقاط قوة قد لا يتمتع بها الآخرون.

في حديثٍ مع "جرين بالعربي"، قال الدكتور ماثيو سميث أستاذ تاريخ الصحة في جامعة ستراثكلايد الاسكتلندية وصاحب مؤلفات عن "تشتُّت الانتباه وفرط الحركة"؛ إن الميزة الأساسية في ذوي التنوع العصبي أنهم يرون الأمور من منظور مختلف. وهذا الأمر ينطبق على التغيُّرات المناخية من ناحية القدرة على ابتكار أفكار جديدة لمواجهتها، وتقديم بديل للثقافة الاستهلاكية التي سيطرت على العالم.

التنوع العصبي

وأوضح سميث أهمية فكرة "الدخل الأساسي الشامل" لمواجهة التغيُّرات المناخية، ومنح ذوي التنوُّع العصبي المزيد من الأمان والمرونة لإقامة حياة مستدامة، واستخدام إبداعهم وخيالهم الاستخدامَ الأمثلَ.

ويُعرَّف الدخل الأساسي الشامل بالأموال التي تمنحها الدول لمواطنيها بغض النظر عن عملهم أو مستواهم الاجتماعي، بهدف التصدي للفقر.

حب الاكتشاف

وربطت دراسة علمية أجرتها جامعة كامبريدج البريطانية، بين القدرات الاستكشافية التي يتمتع بها مصابو عسر القراءة وبين القيام بدور هام في تكيُّف البشر مع البيئات المتغيرة.

ووفق الدراسة، يتمتَّع المصابون بعقل مُتخصِّص في استكشاف المجهول؛ ما يرتبط بحب التجربة والابتكار، بدلاً من الاعتماد على ما هو متاح. ويأتي ذلك على حساب معالجة المعلومات الأكثر تفصيلاً، وهو ما قد يُفسِّر الصعوبات التي يُواجهونها في القراءة والكتابة.

الدراسة البريطانية أُجرِيت في إطار نظرية يُطلَق عليها "الإدراك التكميلي"، وهي نظرية تقول إن عملية تطور الأجداد شهدت تخصص كل مجموعة منهم في شكل ما من أشكال التفكير؛ ما يُحسِّن قدرة البشر على التكيُّف من خلال التعاون.

تشمل نقاط القوة التي يتمتَّع بها مصابي عسر القراءة، القدرة على تخيُّل المستقبل، وإيجاد سبل جديدة للتكيُّف، والتفكير الطويل المدى، وهو ما يُفسِّر وجود أعداد كبيرة من العاملين في قطاع الاستدامة مُشخَّصين بالفعل بعسر القراءة، بحسب موقع منظمة المنتدى الاقتصادي العالمي.

وتشير دراسة نشرتها دورية "International Journal of Early Childhood Special Education" إلى تسارع في زيادة عدد حالات عسر القراءة المسجلة بين الطلاب في الوطن العربي.

قدرات ومزايا

قبل سنوات، عرَض معلمون داخل إحدى المدارس أفلاماً تُظهِر مشاهد البلاستيك الذي يُلوِّث المحيطات، ومشاهد الدببة التي تتضور جوعاً.

بعد انتهاء العرض، تحوَّل انتباه معظم الطلاب إلى أمور أخرى، بينما ظلت تلك الصور عالقةً في ذهن إحداهم، وهي فتاة تدعى جريتا تونبرغ، وأصبحت ناشطة المناخ البارزة التي توجِّه نقداً لاذعاً للمجتمع الدولي؛ لحثه على مواجهة الاحتباس الحراري.

ووفق موقع جامعة كامبريدج، شُخِّصت "تونبرغ" (20 عاماً) بمتلازمة "اسبرغر"، وهو أحد أنواع التوحُّد، وكذلك اضطراب تشتُّت الانتباه وفرط الحركة "ADHD"، ونقلت تقارير أخرى معاناتها كذلك من الوسواس القهري.

وتقول "تونبرغ": "أنا مفرطة التفكير. بعض الناس يمكنهم أن يتجاوزوا الأمور، لكني لا أستطيع القيام بذلك، خاصةً إذا كان هناك أمر يقلقني".

ويرى سام فارمر مستشار شركة Floreo التي تعمل في تعليم المهارات الحياتية لذوي التنوُّع العصبي من خلال تكنولوجيا الواقع الافتراضي، أن سمات متلازمة "اسبرغر" – مثل التفكير الإبداعي والتركيز الزائد – ساهمت في تفوق "تونبرغ" فيما تقوم به.

فيما يقول الدكتور كينيث روبيرسون الاختصاصي النفسي المتخصص في علاج التوحد، إن من مزايا المصابين تمسُّكهم بأفكارهم دون التأثر بما يقوله الآخرون، والتمتع بقدرٍ عالٍ من المُثابَرة، والتفوُّق في المهام التي تتطلَّب الاهتمام بالحقائق والتفاصيل التي قد ينساها الآخرون.

التوحدعلى الجانب الآخر، كشفت دراسة بريطانية نشرتها دورية "the Journal of Environmental Psychology" أن مصابي التوحُّد يحتاجون المزيد من الدعم حتى يتمكَّنوا من التحوُّل إلى العادات الصديقة للبيئة.

وأشار الباحثون إلى المشكلات الحسية التي قد تمنعهم من استخدام وسائل المواصلات على سبيل المثال، علاوةً على صعوبة تحوُّلهم إلى نظام غذائي أكثر ملاءمةً للمعايير البيئية.

متلازمة ADHD

بدورها، أوضحت مارسي كاردويل – وهي اختصاصية نفسية معتمدة في الولايات المتحدة لعلاج الـ"ADHD" – أن عدة دراسات كشفت الحساسية الزائدة لمصابي الاضطراب تجاه فكرة العدالة مقارنةً بغيرهم، لا سيما لدى من يغلب عليهم تشتُّت الانتباه دون فرط الحركة، وهي سمة غالباً ما يجري إغفالها عند الحديث عن الاضطراب، بحسب موقع Additude.

وتقول الاختصاصية النفسية إنه يمكن الاستفادة من تلك النقطة إذا ما جرى إدارتها بشكل صحيح؛ إذ يحتاج العالم إلى أفراد يمكنهم الالتزام بإحداث تغيير إيجابي في حياة الآخرين.

وقد يرجع السبب في كراهية اللامساواة إلى أعراض أخرى يعانون منها؛ من بينها حدة المشاعر، وعدم انتظامها؛ فهناك ارتباط بين الـ"ADHD" والحساسية الشديدة.

التوحدفرط تركيز

ويمر المصابون بـ"تشتت الانتباه وفرط النشاط" بفترات من التركيز المفرط على نشاط معين أو مهمة ما. وبحسب دراسة لجامعة ميتشغن الأمريكية، يزداد معدل المرور بتلك الفترات كلما اشتدت حدة الإصابة.

وأجرت الباحثة هولي وايت بجامعة ميتشغن الأمريكية، تجربة لاختبار القدرات الإبداعية لمجموعة من الطلاب من مصابي الـ"ADHD" مقارنةً بغيرهم؛ إذ طلبت من المجموعتين تخيُّل فاكهة فضائية موجودة على كوكب آخر ورسمها وكتابة وصف لها.

وجاءت أمثلة الفواكه الأكثر ابتكاراً، والأقل تشابهاً بفواكه الأرض من مصابي الاضطراب مقارنةً بالمجموعة الأخرى.

وأوضح ماثيو سميث لـ"جرين بالعربي" أهمية تمكُّن المصابين من استخدام صفاتهم بطرق تؤثر إيجاباً في قضية تغير المناخ.

وقال: "بعض الطرق التي يُنصَح بها لتقليل أعراض تشتُّت الانتباه وفرط الحركة هي في الأصل عادات صديقة للبيئة، مثل ركوب الدراجات الذي يقلل الانبعاثات، وفي الوقت نفسه مفيد لمصابي العديد من الاضطرابات؛ من بينها ADHD".

عادات صديقة للبيئة

نماذج ناجحة

من جانبها، تعتبِر الصحفية المصرية سارة الأمين أن إصابتها بتشتُّت الانتباه وفرط النشاط من العوامل التي ساهمت في العديد من القرارات التي اتخذتها في حياتها.

وتقول الأمين لـ"جرين بالعربي": "أسستُ شركة وأطلقت مشروعاً لمنتجات التجميل والعناية الشخصية المصنوعة من مكونات طبيعية تخلو تماماً من المواد الكيميائية".

وتُوضِّح أن المنتجات تُعبَّأ في عبوات صديقة للبيئة، كما تستعين الشركة خلال توصيل الطلبات بعبوات ورقية قابلة للتحلل، ويمكن للعميل إعادة استخدامها بهدف تقليل استهلاك البلاستيك.

وتشير الأمين إلى أنهم يقومون قدر الإمكان بتوحيد شكل العبوات حتى يتمكَّن العملاء من إعادة استخدامها في أغراض أخرى؛ فعلى سبيل المثال، قام البعض بتحويل عبوات المنتجات إلى "طقم توابل" دون أن يضطروا إلى شراء أطقم جديدة.

وتابعت: "هناك فكرة أخرى نفَّذتها الشركة مع العملاء الدائمين، وهي خصومات على الأسعار نظير إعادة العبوات التي استخدموها للشركة عند شراء المنتج الجديد، ومن ثم توفير تكلفة التعبئة، وحماية البيئة".