سنغافورة.. المدينة الفاضلة الخضراء في عصر التغير المناخي


مروة بدوي
الخميس 06 فبراير 2025 | 04:21 مساءً

بعد مرور 60 عاماً على استقلالها، تحولت سنغافورة إلى قدوة تلهم جميع الدول الطامحة للنمو والازدهار، تلك الجزيرة التي وُلدت فقيرة ومحدودة الموارد ومنبوذة أو بالأحرى مطرودة من الاتحاد الماليزي، باتت خلال عقود قليلة عملاقة آسيوية صاحبة تجربة تحظى باحترام وإعجاب العالم.

قد تستطيع بعض الدول تحقيق النجاحات والاستثمارات المزدهرة، وتصبح مراكز مالية كبرى، وتنضم إلى ركب التحضر السريع والدول القوية بالعالم، لكن إذا نظرنا إلى قائمة هذه الدول، في الغالب سنجدها نفس البلدان التي تتصدر خريطة الكوكب في البصمة البيئية، وهي ذاتها الأكثر استهلاكاً للوقود الأحفوري والموارد الطبيعية، والأكثر إنتاجاً للانبعاثات الكربونية.

سنغافورة نموذج اقتصادي مستدام

فكرة تحقيق توازن جيد بين النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية أصبحت تمثل تحدياً كبيراً، وكأنهما أمران متعارضان من الصعب أن يجتمعا معاً، حتى اكتملت التجربة السنغافورية، وأثبتت العكس تماماً؛ فلا يمكن لأي نمو أن يكون مستداماً إذا أهملنا البيئة؛ ولا يمكن أن تكون هناك استدامة بيئية دون نمو اقتصادي.

وفي ظل أزمة المناخ، يمكن اعتبار سنغافورة تجسيد واقعي لمفهوم" المدينة الفاضلة" في عصر الغليان الحراري.. فكيف حققت "مدينة الأسد" هذه المعادلة الصعبة؟

النهج الناعم

سنغافورة مدينة تفتقر للموارد طبيعية وتمتلك مساحات أرضية محدودة، لذلك نفذت نهجاً تخطيطياً وإدارياً يعتمد على كفاءة استغلال الموارد المتاحة مع الاستدامة في الاستهلاك أو ما يعرف بـ"النهج الناعم". 

شهد القرن العشرين أسلوباً قاسياً للحصول على الموارد وتشييد بنية تحتية ضخمة في كل دول العالم، وحرمان الطبيعة من مصادرها مع تجاهل تام للعواقب البيئية، لكن على النقيض يعول النهج الناعم على الكفاءة في الاستخدام والبحث عن مصادر وإمدادات جديدة مع الاستهلاك بعناية وحكمة.

النهج الناعم، الذي وصفته الدكتورة إيمي خور، وزيرة النقل والاستدامة في سنغافورة، عبر الموقع الرسمي لوزارة الخارجية، قائلةً: "منذ الأيام الأولى لبناء دولتنا، تم التفكير بعناية في كيفية إدارة مواردنا النادرة وتحقيق النمو الاقتصادي، مع الحفاظ على بيئة بجودة جيدة لشعبنا، من خلال التخطيط طويل الأجل والنهج المتكامل للإدارة الحضرية".

وبينما تركز العديد من البلدان على الأهداف قصيرة المدى مثل التنمية الاقتصادية، نجحت سنغافورة في الحفاظ على البيئة مع تطوير الاقتصاد من خلال تغيير العقلية، والاستخدام الكفء للموارد المحدودة، وتحقيق الأهداف طويلة الأجل لبناء مدينة مستدامة وقابلة للعيش تعتمد على اقتصاد سليم، وفقاً لحوار صحفي لوزير البيئة والمياه السابق في جمهورية سنغافورة، ماساجوس ذو الكفلي. 

إدارة أزمة المياه 

ومن خلال ملف المياه، يمكننا رؤية كيف ترجمت سنغافورة النهج الناعم إلى حلول عملية واستراتيجية مستدامة للتعامل مع ندرة الموارد الطبيعية، وعلى رأسها نقص المياه.

أولاً: الواقع البيئي:

تعد سنغافورة من أكثر دول العالم التي تعاني من نقص المياه بسبب قلة الموارد المائية الطبيعية مثل الأنهار أو الينابيع الطبيعية أو الأنهار الجليدية، فضلاً عن محدودية الأراضي اللازمة لجمع وتخزين مياه الأمطار، وفقاً لوزارة الاستدامة والبيئة في سنغافورة.

ثانياً: استراتيجية الصنابير الوطنية الأربعة:

بعد الاستقلال، كانت سنغافورة دولة نامية بها أنهار موحلة وقنوات ملوثة، وتدفق غير قابل للسيطرة من مياه الصرف الصحي، خططت سنغافورة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المياه والغذاء والطاقة وإنشاء أنظمة تتحمل الضغوط، ووضعت الحكومة خطة تمتد من 1965 حتى 2060، حسب حديث سيسيليا تورتاخادا، أستاذة الاستدامة البيئية في جامعة غلاسكو البريطانية، والمهتمة بدراسة السياسات المائية حول العالم.

وبفضل التخطيط الدقيق والابتكار، تمكنت سنغافورة من بناء إمدادات قوية ومتنوعة ومستدامة من المياه على مدى السنوات الماضية من خلال خطة الصنابير الوطنية الأربعة، حسب الموقع الرسمي لوزارة الاستدامة والبيئة في سنغافورة.

1 - مياه الأمطار المجمعة 

 مياه الأمطار مصدراً مهماً للمياه في سنغافورة، لذا حرصت على الاستفادة من كل قطرة مطر؛ حيث تستغل ثلثي مساحة البلاد لتجميع مياه الأمطار ثم توجيهها عبر شبكة تضم أكثر من 8000 كيلومتر من المصارف والقنوات حتى تصل إلى 17 خزان لتخزين المياه  قبل معالجتها للشرب.

وتخطط البلاد لزيادة المساحة المخصصة لجمع مياه الأمطار حتى تصل إلى 90% من مساحة الأراضي السنغافورية خلال العقود المقبلة.

2- المياه المستوردة

تستورد سنغافورة المياه من ماليزيا منذ عام 1962، وتمنح هذه الاتفاقية سنغافورة الحق في سحب واستخدام ما يصل إلى 250 مليون جالون من المياه الخام يومياً، وفي المقابل تلتزم سنغافورة بتزويد ولاية جوهور الماليزية بالمياه المعالجة بما يصل إلى 2% من المياه التي تستوردها، وتنتهي الاتفاقية عام 2061.

3- NEWater

تعد إعادة تدوير المياه الطريقة الأكثر استدامة وفعالية من حيث التكلفة لزيادة إمدادات المياه في سنغافورة، والتي تسمح بإعادة استخدام كل قطرة ماء بشكل لا نهائي، ويوجد حالياً 5 مصانع لإنتاج NEWater أو المياه المُعالجة في سنغافورة.

تنتج من المياه المستعملة التي تتم معالجتها بتقنيات عالية الكفاءة، وتعد مياه فائقة النظافة وآمنة للشرب، وتجتاز المياه المعالجة أكثر من 150 ألف اختبار علمي، ما يجعلها متوافقة تماماً مع إرشادات منظمة الصحة العالمية لجودة مياه الشرب، وفقاً لوزارة الاستدامة والبيئة في سنغافورة.

 ولجودتها العالية وتجاوزها المعايير الدولية، يُستخدم جزءاً من هذه المياه في تصنيع الرقائق، وهي صناعة تتطلب مياة أكثر جودة ونقاء من مياه الشرب.

4-تحلية المياه

باعتبارها جزيرة محاطة بمياة المحيط، فإن تحلية المياه تعد خياراً طبيعياً، وتواصل البلاد الاستثمار في البحث والتطوير لتحسين الجدوى الاقتصادية لتحلية المياه، حيث حققت سنغافورة تقدماً تكنولوجياً كبيراً في تحلية المياه، وتملك الآن 5 محطات تحلية مياه قيد التشغيل.

ويؤكد تقرير الرابطة الدولية للمياه أن المياه المعالجة عالية الجودة والمياه المحلاة قد سمحا لسنغافورة بأن تكون أكثر مرونة وقدرة على الصمود في مواجهة تقلبات المناخ.

ويبلغ الطلب على المياه في سنغافورة حالياً حوالي 430 مليون جالون يومياً، حيث تستهلك المنازل 45%، ويستحوذ القطاع غير المنزلي على الباقى، وقد يتضاعف إجمالي الطلب على المياه بحلول عام 2060، بسبب نمو الاقتصاد وعدد السكان، ومن المقرر أن تلبي محطات المياه المعالجة والمحلاة ما يصل إلى 85% من الطلب المستقبلي على المياه في سنغافورة.

الخطط المستقبلية

دعماً لأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، أُطلقت أحدث خطة خضراء "Singapore Green Plan 2030" في فبراير 2021، تتضمن 5 ركائز أساسية، هي:

-تحويل سنغافورة إلى مدينة طبيعية

-الاقتصاد الأخضر

-الحياة المستدامة

-إعادة ضبط الطاقة

-مستقبل مرن

وتشمل الخطة زراعة مليون شجرة جديدة، وزيادة إنتاج الطاقة الشمسية بمقدار 4 أضعاف، وخفض النفايات بنسبة 30%، وجعل حوالي 20% من المدارس خالية من الكربون.

وستعمل كل السيارات الجديدة بالطاقة النظيفة بدءاً من عام 2030، مع توسيع شبكة السكك الحديدية وشبكة الدراجات وتنفيذ مسارات جديدة مخصصة للمشاة، بجانب دعم الاقتصاد الأخضر لتقليل الانبعاثات الصناعية. 

والخلاصة، لقد حولت سنغافورة "الحفاظ على البيئة" إلى حل سحري لكل قضاياها وملفاتها، ليس فقط الاقتصادية والتنموية ولكن أيضاً الاجتماعية، فما الذي يمكن أن يجمع 6 ملايين نسمة من أديان وأعراق وثقافات مختلفة يعيشون جميعهم في جزيرة صغيرة نالت استقلالها حديثاً؟ 

الإجابة هي البيئة، منذ الاستقلال دشنت البلاد عدة حملات عامة تدعو إلى الحفاظ على نظافة البيئة والصحة العامة، بهدف توحيد الشعب حول قضية واحدة وغرس حس الانتماء لمجتمع غير متجانس سكانياً مثل سنغافورة.

وكان شعار أولى هذه الحملات "ازرعوا الأشجار وحافظوا على نظافة سنغافورة"، حتى أصبحت تُعرف بـ"مدينة الحدائق"، وتحتل مراكز متقدمة في مؤشرات المدن الخضراء، كما أنها تسعى جاهدة لتكون المدينة الأكثر خضرة في العالم.

لا شيء يستطيع أن يقف أمام نظافة واستدامة البيئة السنغافورية، حتى قطعة العلكة الصغيرة قد تم حظرها عام 1992، لتقليل النفايات إلى أقل قدر ممكن داخل "مدينة الأسد "، تلك الجزيرة الباحثة عن الكمال البيئي والمستقبل المستدام.