إشارة وراء الأخرى تدلل على الوضع الخطير الذي وصل له البحر الأبيض المتوسط، وآخرها كارثة العاصفة "دانا"، التي ضربت إسبانيا بلا رحمة، إذ تحولت الشوارع إلى أنهار، وخلفت ورائها أتلال من السيارات التي كسحتها الفيضانات .
العاصفة "دانا" ورغم اسمها اللطيف، إلا أنها الأسوأ منذ عقود، وأسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من 200 شخص، بينما لا يزال العشرات في عداد المفقودين، وقد حوّلت هذه الفيضانات المميتة شوارع القرى إلى أنهار، وجرفت السيارات وعرقلت شبكات الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية وتركت الآلاف بدون كهرباء أو مياه.
بدأت عاصفة "دانا" يوم الثلاثاء في المناطق الجنوبية والشرقية من البلاد، وفي غضون بضع ساعات شهدت اسبانيا هطول كمية من الأمطار تعادل عام كامل، حتى أن البعض أطلق عليها فيضان القرن، بينما وصف المتحدث باسم وكالة الأرصاد الجوية الوطنية الإسبانية "AEMET"، العاصفة بأنها واحدة من أكثر العواصف قوة في شرق البلاد خلال هذا القرن، وفقا لوكالة "رويترز".
الفيضانات والجفاف وجهان لأزمة واحدة
لم يكن يتوقع سكان فالنسيا، المنطقة الأكثر تضرراً، هذه الأمطار الكارثية، حيث تعيش إسبانيا حالة من الجفاف وتضاؤل سقوط الأمطار على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، جعلت الجميع ينتظر مستقبلاً قاتماً من الجفاف المتفاقم، الذي يتزايد مع موجات الاحترار، واضطرت الحكومة فرض حالة الطوارئ في بعض الأقاليم، حتى جاءت عاصفة دانا وغمرت جنوب وشرق إسبانيا بالأمطار المفاجئة.
أزمة المناخ تغير ملامح الحياة على سطح الكوكب، وتستطيع أن تجمع كل المتناقضات في مكان واحد، ولذلك ليس من المستغرب أن يسيطر الجفاف على الأرض لعدة أعوام ثم تنهمر الأمطار المفاجئة من السماء لمدة ٨ ساعات متواصلة كما حدث في إسبانيا، والسبب هو تعطيل وتشويه دورة المياه الطبيعية.
الاحترار يتسبب في تبخر الماء و موجات من الجفاف، لكن في نفس الوقت الهواء الساخن قادر على الاحتفاظ بمزيد من الرطوبة، فهو يمتصها فيما يشبه "الإسفنج " ثم يخرجها في هيئة أمطار غزيرة، لذلك تعيش بلدان العالم في حالة من التقلبات المناخية ما بين الجفاف والفيضانات، بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
ويذكر ستيفانو ماتيريا، عالم المناخ الإيطالي بالمركز الأورومتوسطي المعني بتغير المناخ (CMCC)، ان "الجفاف والفيضانات وجهان لعملة واحدة هي تغير المناخ"، وأضاف أن الدراسات ربطت بين الجفاف في منطقة البحر الأبيض المتوسط وحالة الطوارئ المناخية بسبب التغيرات في الدورة الجوية، بالإضافة إلى الارتفاع الشديد في درجة حرارة المنطقة
البحر الأبيض المتوسط يشبه القنبلة الموقوتة
منطقة البحر المتوسط تعاني بالفعل من واقع مناخي قاسي يسميه علماء المناخ المخاطر المركبة والتأثيرات المتتالية، لأن موجات الحر تعمل على تحويل الغابات إلى ما يشبه صناديق البارود، مما يؤدي إلى اندلاع حرائق غابات مميتة تخنق المدن بالدخان وتزيد من موجات الجفاف، والتي تؤدي بدورها الى تجفيف التربة ومنع الأرض من امتصاص المياه عندما تهطل الأمطار الغزيرة وبالتالي تصبح بلدان منطقة المتوسط أقل قدرة على تحمل الصدمات المناخية.
ويوضح عالم المناخ الإيطالي ستيفانو ماتيريا، ان وجود المزيد من الطاقة والحرارة مع المزيد من بخار الماء، يعني زيادة عدم الاستقرار المناخي ، لأن كل هذه العناصر تغذي العواصف المرعبة عندما تكون الظروف الجوية مواتية لذلك، وعلق ماتيريا قائلا أن "البحر الأبيض المتوسط أشبه بقنبلة موقوتة هذه الأيام".
تؤدي المحيطات والبحار الأكثر سخونة إلى تفاقم العواصف، وتتسارع وتيرة هذه المشكلة في البحر المتوسط لأن درجة حرارة سطح البحر الأبيض ترتفع بنسبة 20% أسرع من باقي المسطحات المائية بسبب كونه بحراً شبه مغلق.
وسجلت منطقة البحر المتوسط أعلى درجة حرارة لها على الإطلاق في أغسطس الماضي، ووصلت على الساحل المصري في مدينة العريش، والتي سجلت 31.96 درجة مئوية في يوم 15 أغسطس، وفقا لوكالة "فرانس برس".
العواصف الخريفية في منطقة المتوسط
هطول أمطار غزيرة في الخريف، هو سمة من سمات مناخ البحر الأبيض المتوسط، وتعرف هذه الظاهرة بـ"gota fria" أو قطرة الهواء البارد، وهو الاسم الشائع لها في إسبانيا وفرنسا، وتوضح وكالة الأرصاد الجوية الوطنية الإسبانية "AEMET" أن مفهوم القطرة الباردة عفا عليه الزمن، وباتت هذه العاصفة تعرف في إسبانيا باسم "DANA"، وهو اختصار إسباني لـ "Depresión Aislada en Niveles Altos"، بمعني نظام ضغط منخفض معزول في المستويات العليا، وتتكون عندما يهب الهواء البارد فوق مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة، فيرتفع الهواء الساخن بسرعة وتتكون سحب كثيفة محملة بالمياه، والتي يمكن أن تبقى فوق نفس المنطقة لعدة ساعات، مما يزيد من قدرتها التدميرية.
ويتعرض شرق وجنوب إسبانيا بشكل خاص لهذه الظاهرة بسبب موقعها بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، حيث تلتقي الكتل الهوائية الدافئة والرطبة مع الكتل الباردة.
وشهدت إسبانيا عواصف خريفية كبيرة من قبل، إلا أن الدمار الذي أحدثته هذه العاصفة لا يقارن بأي حدث أخر، والفيضانات التي نتجت عنها تعد الأكثر فتكًا منذ عقود، وفقا لشبكة "سي إن إن".
وأعلن المختبر الأوروبي للعواصف الشديدة (ESSL)، بعد مراجعة قاعدة بيانات الطقس الأوروبية، أن فيضان 29 أكتوبر 2024 هو الأكثر فتكاً في إسبانيا منذ أكثر من 60 عاماً، والأكثر فتكاً هذا العام في أوروبا بأكملها ومنطقة البحر المتوسط.
لم يقف تأثير "دانا" على إسبانيا، بل امتد أيضاً إلى المغرب، لكن تأثيرها كان أقل حدة مقارنة بإسبانيا، حسب تصريح الحسين يوعابد، مسؤول التواصل بالمديرية العامة للأرصاد الجوية المغربية.
وقد أوضح يوعابد في حديثه لموقع le site info المغربي، أن العاصفة التي ضربت شرق إسبانيا، تؤثر على المملكة، حيث ظهرت سحب كثيفة محملة بالأمطار في بعض الأحيان، وقد أدت إلى تساقطات مطرية مهمة يوم الثلاثاء الماضي.
ومن المتوقع أن يقل تأثير ظاهرة المنخفض الجوي “دانا" وتستقر الأحوال الجوية بشكل تدريجي مع سقوط أمطار متفرقة على السواحل المتوسطية والأطلسية في المغرب، وفقاً لمسؤول التواصل بالمديرية العامة للأرصاد الجوية المغربية.
مخاوف الإسبان
منذ بداية موسم الصيف، خرج الآلاف من الإسبان في مظاهرات للاحتجاج على السياحة المفرطة، وطالبوا بتغيير السياسة المرتبطة بالسياحة لأنها تضر بالجزر الإسبانية الواقعة في البحر الأبيض المتوسط.
وأحد الأسباب وراء هذه المظاهرات التي تدعو لها منظمات المجتمع المدني الإسباني هو الضرر البيئي الناتج عن الاكتظاظ السياحي، ويبدو ان الاسبان يهتمون بالقضايا البيئية بنسبة كبيرة مقارنة بجيرانهم في جنوب أوروبا، حيث يربط 61% من الإسبان ما بين القضايا البيئية والتأثير مباشر على حياتهم اليومية، وفقا لأحدث استطلاع أجرته مؤسسة يوروباروميتر التابعة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، مما يشير إلى وعي الإسبان بالتأثير البيئي والمناخي.
ويحتج الإسبان على مواسم السياحة المفرطة بعد أن وصل عدد السياح إلى 85 مليون زائر عام 2023، وأدى هذا الارتفاع إلى مأساة التلوث والاحترار، حيث يصل 82٪ من السياح القادمين إلى مدينة برشلونة وحدها على قطاع الطيران، المسئول على نحو 10٪ من إجمالي انبعاثات قطاع النقل العالمي، ويستهلك كمية كبيرة من الوقود الأحفوري، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
وتحدث السفن السياحية تأثيراً أكثر ضرراً في البحر المتوسط، واختيرت برشلونة كأسوأ ميناء في أوروبا بسبب تلوث الهواء الناجم عن السفن السياحية في تقرير منظمة الاتحاد الأوروبي للنقل والبيئة، كما أن العاصمة الكتالونية بات لديها ثاني أعلى معدل للنفايات البلاستيكية في البحر المتوسط.
وأخيراً، ربما يتطلب معرفة الدور الدقيق الذي يلعبه تغير المناخ في تشكل الفيضانات المدمرة المزيد من التحليل والوقت، لكن خبراء المناخ يؤكدون أن الاحتباس الحراري العالمي، الناتج عن استهلاك الوقود الأحفوري والتلوث، واحترار البحر الأبيض المتوسط والأجواء الأكثر دفئاً ورطوبة، كلها عناصر تتسبب في المزيد من الظواهر المناخية المتطرفة المتتالية.
فهل تحققت مخاوف الإسبان من عواقب الأنشطة البشرية الضارة، مثل التلوث والسياحة المفرطة، والتي تقود عجلة ازمة المناخ وتدفع بالكوكب إلى مستقبل غامض، وتحول البحر المتوسط إلى منطقة ساخنة مناخياً تعاني من الاحترار والجفاف والفيضانات والعواصف المدمرة مثل "دانا"؟