تشويش يؤرق البيئة.. ماذا يحدث عندما تتسلل الضوضاء إلى الغابات؟


محمد رمضان
الخميس 18 مايو 2023 | 02:33 مساءً
الصوت مؤشر قوي على التدهور البيئي
الصوت مؤشر قوي على التدهور البيئي

نتعامل مع البيئة على أنها جماد لا تمتلك حوار الكائنات الحية نفسه، لكن الحقيقة أنها تمتلك أساليب تواصل مهمة، تتعايش بها في مواجهة التحديات، وأخطرها التغيُّر المناخي؛ فهي تعاني – مثلَ الإنسان – من المؤثرات الخارجية الضارة.

الضوضاء المتواصلة تثير غضب البشر والبيئة أيضاً، ومثلما يستخدم البشر والحيوانات الصوت للتواصل، فإن النباتات والغابات تفعل الأمر نفسه. وتكتشف النباتات الاهتزازات بطريقة انتقائية، باستخدام حاسة "السمع" للعثور على الماء، عن طريق إرسال انبعاثات صوتية ولإبلاغ التهديدات.

ورغم أن الاتصال اللفظي الواضح أمر بالغ الأهمية، فإن من السهل أن يتعرَّض للتدهور بسبب الأصوات الدخيلة المعروفة باسم "الضوضاء"؛ فالضجيج أكثر من مجرد مصدر إزعاج؛ بل إنه يهدد الصحة أيضاً.

ثبت أن متوسط مستويات أصوات المدينة البالغ 60 ديسيبل، يزيد من ضغط الدم ومعدل ضربات القلب، ويؤدي إلى الإجهاد، مع استمرار الأصوات العالية التي تسبب فقدان السمع التراكمي. وإذا كان هذا ينطبق على البشر فقد يكون صحيحاً أيضاً بالنسبة إلى الحيوانات، وحتى النباتات.

الصوت مؤشر قوي على التدهور البيئي، وأداة فعالة لتطوير أنظمة بيئية أكثر استدامة؛ فكثيراً ما يجري الحديث عن تغيُّرات في البيئة قبل رؤيتها، مثل التحولات في محادثات الطيور

محادثات الطيور

يقول جارث باين الأستاذ المساعد في الصوت الرقمي والوسائط التفاعلية بجامعة ولاية أريزونا، إن الصوت عنصر حاسم في دورة عمل الأنظمة الطبيعية، وتستخدم إدارة مختبر البيئة الصوتية بالجامعة الصوت لتعزيز الوعي البيئي، ويجري توفير أدوات مهمة للنظر بشكل أعمق في الصوت بالمحميات الطبيعية والتصميم الحضري والصناعي.

والصوت مؤشر قوي على التدهور البيئي، وأداة فعالة لتطوير أنظمة بيئية أكثر استدامةً؛ فكثيراً ما يجري الحديث عن تغيرات في البيئة قبل رؤيتها، مثل التحولات في محادثات الطيور.

وأمام ذلك، شكَّلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) مؤخراً ميثاقاً سليماً لتعزيز الوعي بالصوت، باعتباره مؤشراً حاسماً في الصحة البيئية والتخطيط الحضري.

يروي الباحث باين رحلته مع رصد مستويات الأصوات وفقاً لتغيرات الطقس: "لقد أمضيت عقوداً في إعداد تسجيلات ميدانية أرصد فيها الأصوات في فترة ما قبل الفجر أو الغسق، ثم أستلقي على الأرض مستمعاً لعدة ساعات متواصلة.. لقد علَّمتني هذه المشاريع كيف تتغير كثافة الهواء مع شروق الشمس أو غروبها، وكيف يتغير سلوك الحيوانات نتيجةً لذلك، وكيف ترتبط كل هذه الأشياء بشكل معقد".

على سبيل المثال، ينتقل الصوت عبر مواد ذات كثافة أكبر، مثل الهواء البارد، أكثر من انتقاله عبر هواء الصيف الدافئ. وهناك عوامل أخرى؛ فالتغيرات في كثافة أوراق الشجر بالغابة من الربيع إلى الخريف تُغيِّر أيضاً خصائص ارتداد الصوت.

هل تتخيل كيف يمكن أن يؤثر تغير المناخ على أصوات المخلوقات المختلفة في بيئات متنوعة؟ نعم، هذا ما سيحدث؛ فانخفاض كثافة النبات يؤدي إلى تغيير التوازن بين الأسطح الامتصاصية مثل الأوراق، والأسطح العاكسة مثل الصخور والمباني، وهو ما سيؤدي إلى زيادة الصدى، وجعل البيئات الصوتية أكثر قسوةً.

في الأماكن التي يتردد فيها صدى الصوت لفترة طويلة، يمكن أن يصبح إجراء محادثة مرهقاً؛ حيث تتداخل الأصداء، ويمكن أن يكون لزيادة الصدى تأثير مماثل في الظروف الطبيعية.

ببساطة، فإن الأصوات المزعجة في مناطق الغابات قد تزيد من صعوبة اكتشاف الحيوانات المفترسة لفرائسها.

يؤثر التلوث الضوضائي بوجه خاص على صغار وكبار السن بين المجتمعات المهمشة التي تميل إلى العيش بالقرب من الطرق ذات الازدحام الشديد والمناطق الصناعية، بدلاً من القرب من المساحات الخضراء

تغيير اتصالات الحيوانات

ولعل تقريراً نشرته صحيفة "فاينانشيال تايمز"، نقلاً عن المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إنجر أندرسن، في مارس 2022، أزاح الستار عن أن المدن توفر فرص العمل والترفيه للجميع، لكن المدن الكبرى في العالم – من بانكوك إلى برشلونة، ومن بوغوتا إلى القاهرة، ومن دمشق إلى دلهي، ومن كراتشي إلى كولكاتا، ومن نيويورك إلى نيروبي – تحمل أيضاً مخاطر بيئية على سكانها.

تتجاوز مستويات الضوضاء الحدود المقبولة التي حدَّدتها منظمة الصحة العالمية في المدن بجميع أنحاء العالم، ويؤثر التلوث الضوضائي بوجه خاص على صغار وكبار السن بين المجتمعات المُهمَّشة التي تميل إلى العيش بالقرب من الطرق ذات الازدحام الشديد والمناطق الصناعية، بدلاً من القرب من المساحات الخضراء.

ونظراً إلى تحضُّر معظم أنحاء العالم، أصبحت المدن نظاماً بيئيّاً مهمّاً بدرجة متزايدة؛ ليس فقط للبشر، بل للتنوع البيولوجي ككل. وهنا يظهر التلوث الضوضائي أيضاً بصفته تهديداً للحيوانات، ويؤدي إلى تغيير الاتصالات وسلوك الأنواع المختلفة، بما في ذلك الطيور والحشرات والضفادع.

ومع ذلك، توضح الأبحاث أن الأصوات الطبيعية المنبعثة من المساحات الحضرية الخضراء، يمكن أن تقدم فوائد صحية متنوعة؛ ففي بعض الحالات، يمكن للنباتات في البيئات الحضرية أن تمتص الطاقة الصوتية.

ولا تساعد أحزمة الأشجار والشجيرات والجدران الخضراء والأسطح الخضراء في تضخيم الأصوات الطبيعية من خلال جذب الحياة البرية فحسب، بل تعمل أيضاً على تحسين منظر الشوارع المرئي.

في حين أن الحل النهائي للتلوث الضوضائي هو الحد منه؛ فقد تم الإبلاغ عن وجود صفوف من الأشجار المزروعة خلف الطرق السريعة لتقليل مستويات الضوضاء بما يصل إلى 12 ديسيبل في مواقع معينة.

يجب أن يأخذ مخططو المدن كلّاً من المخاطر الصحية والبيئية للتلوث الضوضائي في الاعتبار، وقد تم تطبيق تدابير جيدة بالفعل في المناطق الحضرية في جميع أنحاء العالم؛ بدءاً من منطقة الانبعاثات المنخفضة للغاية في لندن، و"رادار الضوضاء" في باريس، وممرات الدرَّاجات الجديدة في برلين على الطرق الواسعة، وصولاً إلى الخطة الوطنية المصرية لمكافحة الضوضاء، والمشروع الباكستاني البالغ 10 مليارات شجرة.

ومع ذلك، هناك حاجة إلى المزيد للتعامل مع الضجيج في كثير من مدن العالم؛ فالتلوث الضوضائي ليس مجرد إزعاج، بل مشكلة صحية وبيئية خطيرة، كما أنه جزء لا مفر منه من الحياة الحضرية.

وفي السنوات الأخيرة، كانت هناك تعبئة كبيرة للموارد لمكافحة تلوث الهواء المسؤول عن الوفاة المبكرة لأكثر من 7 ملايين شخص سنويّاً، وحاليّاً تحتاج المدن إلى حملة مماثلة تُشَنُّ ضد النشاز الذي يضر بالناس والكوكب.