صورة لطفلة فلسطينية تجلس مبتسمة لعدسة الكاميرا بينما تفرد العجين على طاولة أمامها، صارت مؤخراً حديث رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لكن لم يلحظ أغلبهم سحب الدخان التي تغطي خلفية المشهد من جراء القصف المتواصل على قطاع غزة.
بين أطنان الملوثات التي خلفتها نيران الحرب، والوقود الصلب الذي بات وسيلة أهالي غزة الوحيدة لطهي الطعام، لم يسلم الهواء والبيئة من آثار الحرب المدمرة المستمرة منذ ما يزيد عن 3 أشهر.
ديفيد بويد المقرر الأممي الخاص لحقوق الإنسان والبيئة، أكد أن الحرب في غزة "لها عواقب وخيمة على الإنسان والبيئة"، مشيراً إلى أن "تلوث الهواء والماء، وفقدان التنوع البيولوجي، وتفاقم أزمة المناخ هي بعض آثار الدمار الهائل الذي تسببه الحرب".
تراجع جودة الهواء
الأكثر قراءة
"جرين بالعربي" استعانت بمؤشر "Plume Labs" لقياس جودة الهواء لمقارنة التغيير الواقع في قطاع غزة قبل وأثناء الحرب، لنكتشف أن مستوى جودة الهواء في الأشهر الثلاثة السابقة للأحداث ثبت في غالبية الأيام عند "مقبول" وهو مستوى يشير إلى وجود نسبة متوسطة من الملوثات في الهواء.
هذا المؤشر تغير تماماً بعد اندلاع الحرب؛ إذ تراجع مؤشر جودة الهواء خلال الفترة بين 7 أكتوبر 2023 و14 يناير 2024، إلى مستويي "سيئ" و"غير صحي".
في حديثه إلى "جرين بالعربي"، يقول ياسر أبو شنب المدير العام لحماية البيئة في سلطة جودة البيئة الفلسطينية، إن الاحتلال الإسرائيلي استهدف غزة بالمتفجرات والقذائف والصواريخ ومنها أسلحة محرمة دولياً، متهماً إسرائيل بالهجوم على المناطق السكنية في القطاع بالفسفور الأبيض الذي يتفاعل مع الأكسجين، وينتج عنه عدة آثار بيئية وصحية؛ بداية من احتراق الجلد، وصولاً إلى الوفاة.
"أبو شنب" أشار إلى أن وصول الفوسفور إلى الأرض يُحدث دائرة احتراق قطرها 150 متراً، لينتهي الأمر بالقضاء على الكائنات الحية الموجودة في تلك المنطقة، علاوة على حرق الغطاء النباتي، والمناطق المزروعة بها.
الحرب في غزة تفاقم تلوث الهواء- مصدر الصورة: رويترز
كما لفت إلى انتقال ذرات الغبار الناتجة عن الأسلحة الحربية، لتتجاوز حدود المنطقة التي جرى استهدافها، ليستنشقها سكان المناطق البعيدة، مؤكداً أن تلوث الهواء "عابر للحدود"، ومن ثم فإن الغازات والأبخرة الناتجة عن القصف المتواصل تصل آثارها إلى البلدان المحيطة.
الدمار ينال أشجار الزيتون
الدمار نال كذلك غالبية المناطق المزروعة في القطاع، ومن بينها أشجار الزيتون؛ ما يقلل نسبة الأكسجين اللازمة لتنقية الهواء، ومن ثم تغيير مكونات وصفات جودة الهواء في غزة، بحسب المدير العام لحماية البيئة في سلطة جودة البيئة الفلسطينية.
.
ولفت ""أبو شنب" إلى المفارقة بين ما يحدث في قطاع غزة واهتمام العالم بقضية التغير المناخي وحماية البيئة، قائلاً: "الدول التي تدعو إلى خفض الانبعاثات هي نفسها التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي، وتمنع وقف المجازر بحق البيئة الفلسطينية والإنسان الفلسطيني".
وتابع أن الإجراءات التي تطالب بها الدول المتقدمة من أجل حماية البيئة من المفترض أن هدفها الأساسي هو الحفاظ على البشر، واصفاً ما يحدث في القطاع حالياً بأنه "قتل المكون الرئيسي للبيئة في غزة وهو الإنسان".
أطنان من الكربون
تلك المفارقة تجلت بالفعل في دراسة جديدة حاولت قياس البصمة الكربونية للحرب، في وقت يحاول فيه العالم مواجهة التلوث بغازات الاحتباس الحراري.
الدراسة التي أجراها مجموعة من الباحثين البريطانيين والأمريكيين، ونشرتها دورية "Social Science Research Network"، كشفت أن البصمة الكربونية خلال الـ60 يوماً الأولى من الحرب تخطت 281 ألف طن متري من ثاني أكسيد الكربون؛ أي ما يعادل احتراق 150 ألف طن تقريباً من الفحم، دون احتساب غازات الدفيئة الأخرى مثل الميثان، وكانت ما يزيد عن 99% من كميات الكربون ناتجة عن القصف الجوي والعمليات البرية التي شنتها إسرائيل على القطاع، بحسب نتائج الدراسة.
دخان كثيف يملأ شوارع رفح الفلسطينية- المصدر: AP
ومن المرجح أن يكون الحجم الحقيقي للانبعاثات أكبر بكثير من تقديرات البحث، إذ وصف بنيامين نيمارك المحاضر في كلية الملكة ماري بجامعة لندن البريطانية والمشارك في الدراسة، أنها مجرد "لمحة" من البصمة العسكرية الأكبر للحرب، وصورة مصغرة من القدر الهائل من الانبعاثات، والملوثات السامة التي ستبقى لفترات طويلة بعد انتهائها.
وتضمنت أرقام الدراسة احتساب آثار تشغيل الطائرات والدبابات، والمركبات الأخرى، علاوة على الانبعاثات الناتجة عن تصنيع القنابل والصواريخ وأسلحة المدفعية، واستخدامها.
وسائل نجاة خطيرة
كميات الوقود التي استهلكتها إسرائيل لقتل الآلاف منذ بداية الحرب، قابلها نفاد شبه كامل لمصادر الطاقة في غزة، وتحول أبسط الأنشطة اليومية إلى مهمة صعبة وخطيرة، بعدما بات حرق الحطب والنفايات الصلبة والأثاث هو الوسيلة الوحيدة لطهي الطعام، والتدفئة لمواجهة برد الشتاء في العراء.
في 14 ديسمبر الماضي – أي اليوم الـ69 من الحرب – أصدر برنامج الأغذية العالمي تقريراً أشار فيه إلى أن 70% من النازحين الذين وصلوا إلى مناطق الجنوب يستخدمون الحطب لإعداد الطعام.
نقص الوقود في غزة يفاقم آثار الطهي غير النظيف- مصدر الصورة: رويترز
وبحسب تحالف الطهي النظيف (منظمة غير ربحية معنية بتعزيز توفير الوسائل الآمنة لطهي الطعام)، فإن 120 ميجا طن من الملوثات المناخية تنبعث سنوياً من جراء الطهي على نيران مكشوفة أو بسبب نقص الأفران، كما أن ما يزيد عن 50% من انبعاثات الكربون الأسود الملوث للهواء في العالم تنبعث من جراء احتراق الوقود الصلب، سواء للطهي أو للتدفئة.
الحاجة إلى الطهي أجبر العديد من السكان على اللجوء إلى قطع ما تبقى من أشجار، ومن ثم تصاعدت نسب تلوث الهواء مع تراجع الغطاء النباتي الذي يساهم في تنقيته.
غازات وجسيمات ضارة
في حديثه إلى "جرين بالعربي"، يشير الدكتور عاصم الخطيب الأستاذ في معهد الدراسات البيئية والمائية في جامعة بيرزيت بالضفة الغربية، إلى أن احتراق الحطب ينتج عنه غازات وجسيمات ضارة تلوث الهواء، كما أن الاعتماد عليه يؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية من تراجع للمساحات الخضراء، وتأثير على التنوع البيولوجي.
في المقابل، يرى المدير العام لحماية البيئة في سلطة جودة البيئة الفلسطينية ياسر أبو شنب، أن أثر اللجوء إلى هذه الوسائل محدود على المستوى البيئي والصحي، مقارنة بحجم الدمار الذي شهده القطاع، وهي الوسائل المتاحة لاستمرار الحياة، سواء لإعداد الطعام أو تعقيم المياه، مشيراً إلى أن 99% من المياه في غزة إما غير متاحة وإما ملوثة وغير صالحة للشرب.
جهود ضائعة
آثار الحرب تعني كذلك ضياع الجهود التي بذلتها العديد من المؤسسات البيئية على مدى سنوات طويلة في القطاع، وتوقفها إلى أجل غير مسمى، ومن بينها جهود التشجير التي تساهم في تنقية الهواء، وإزالة الملوثات العالقة به.
تشير مريم الجعجع مديرة منظمة "العربية لحماية الطبيعة" – وهي منظمة غير ربحية تركز أنشطتها على الأردن وفلسطين – إلى توقف الأنشطة الزراعية للمنظمة في غزة إثر اندلاع الحرب، موضحة أن إسرائيل استهدفت بكثافة غير مسبوقة الأراضي الزراعية بمختلف أنواع القنابل والأسلحة المحرمة دولياً، علاوة على التجريف المباشر للأراضي، لافتة إلى أن عدد الأشجار التي دمرتها إسرائيل خلال هذه الحرب يتجاوز بكثير ما دمرته خلال الحروب السابقة.
مديرة المنظمة وعدت، في حديثها إلى "جرين بالعربي" ببذل الجهود لإعادة زراعة الأشجار في القطاع من جديد، حسب قدرة المنظمة باعتبارها إحدى منظمات المجتمع المدني، حتى لو تم التنفيذ على عدة مراحل.
في عام 2000، أطلقت المنظمة حملة المليون شجرة في فلسطين، التي يجري تنفيذ المرحلة الثالثة منها حالياً بزراعة المليون الثالثة، وكان نصيب غزة من تلك الجهود زراعة ما يقرب من 470 ألف شجرة منذ انطلاق المشروع الذي يحمل قائمة من الأهداف؛ من بينها تعزيز دخل صغار المزارعين، وحماية أراضيهم.
لكن خلال الفترة بين عامي 2000 و2022، دمرت إسرائيل ما لا يقل عن 700 ألف شجرة في القطاع عبر القصف المتواصل خلال الحروب المتتالية، لا سيما في حربي 2009 و2014، وفقاً لتقديرات "الجعجع".
وتؤكد مديرة "العربية لحماية الطبيعة" أن الحرب منعت مزارعي الزيتون من الحصاد هذا العام للاستفادة المادي أو حتى استغلاله في ظل "المجاعة" من جراء الحصار.
وقبل اندلاع الحرب، تخطت مساحة المناطق المزروعة بأشجار الزيتون في قطاع غزة 4 آلاف هكتار (نحو 11 ألف فدان)، لكن الحرب أتت لتقطع موسم الحصاد الذي بدأ في مطلع أكتوبر، بحسب موقع "Mongabay".
مديرة "العربية لحماية الطبيعة" أشارت إلى أن الفلسطينيين يعانون من التداعيات الأسوأ لظاهرة التغير المناخي، رغم اقتصار حجم الانبعاثات الكربونية التي يسببونها على 0.6 طن سنوياً، مقارنة بـ6.13 طن سنوياً في إسرائيل.
ولفتت مريم الجعجع، إلى أن نفاد الوقود ومصادر الطاقة في القطاع"حالة مقصودة" تسبب فيها الاحتلال بالحصار، واستهداف الألواح الشمسية وغيرها من البنى التحتية، وهو ما لم يترك أمام السكان بدائل سوى استخدام الأشجار بينما يشاهدون أطفالهم يموتون من جراء برودة الطقس وانعدام الأمن الغذائي.
أزمة نفايات
وفي الوقت الذي يعاني فيه قطاع غزة من أزمة مخلفات ضخمة، يشير الدكتور عاصم الخطيب الأستاذ في معهد الدراسات البيئية والمائية، إلى خطر الغازات الضارة التي ستطلق في الهواء مع مرور الوقت وتحلل النفايات المحتوية على مواد كيميائية، مضيفاً أن تسرب تلك المواد إلى المياه والتربة، قد يؤدي إلى انتقالها كذلك إلى الهواء عندما تتبخر المياه الملوثة، أو تتحرك مكونات التربة.
"الخطيب" لفت كذلك إلى الآثار الطويلة المدى للحروب على جودة الهواء في القطاع، قائلاً إن وجود المخلفات الحربية مثل الذخائر غير المنفجرة، قد يشكل تهديداً مستمراً، وقد يؤدي إلى تلوث بيئي طويل المدى، لافتاً إلى أن عدم التعامل الصحيح مع المخلفات قد يؤدي إلى المزيد من تلوث الهواء.
ثورستن كالنيشكيس عالم الجيولوجيا والخبير الأممي السابق في إدارة النفايات، قدر حجم الركام الذي يغطي أراضي قطاع غزة بـ15 مليون طن، بما يحمله من غبار ورماد ومواد سامة، حسبما نقل موقع "Grist".