رغم بعدها الشاسع عن قلب العاصمة واشنطن، باتت "ألاسكا" الولاية الأمريكية الأشهر عالمياً، والمنطقة الأكثر إثارةً للجدل في إقليم المحيط الهادئ، بعدما وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في يناير الماضي مرسوماً جديداً للبحث والتسجيل والحماية القانونية للممتلكات الروسية بالخارج، بما فيها الأراضي السابقة للإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي.
المرسوم فُسر بأنه مقدمة للمطالبة باستعادة روسيا الاتحادية، أكبر الولايات الأمريكية التي تقدر مساحتها بـ1.7 مليون كيلومتر مربع، وأقلها كثافة سكانية، وتقع في أقصى الشمال الغربي لقارة أمريكا الشمالية، وتفصل بينها وبين باقي الولايات دولة كندا.
التاريخ الجدلي لمنطقة ألاسكا
بحسب موقع "History"، عاش البشر في ألاسكا منذ آلاف السنين قبل الميلاد، خلال العصر الجليدي، حتى اكتشفها الروس في القرن الـ18، وأسسوا أول مستوطنة، وصارت تابعة لروسيا القيصرية، التي عانت بعد ذلك من ضائقة مالية خانقة بسبب حرب القرم؛ لذا قرر القيصر آنذاك التخلي عن ألاسكا الواقعة في أقصى شرق الإمبراطورية الروسية، وباعها إلى الأمريكان مقابل 7.2 مليون دولار في أكتوبر 1867.
ومن المفارقة أن الأمريكان قد سخروا من هذه الصفقة باعتبارها أرضاً باردة لا فائدة منها، لكن في أواخر القرن الـ19 بدأت ألاسكا تزدهر بعد اكتشاف حقيقة كونها منجماً للمعدن الأصفر، وأطلقوا عليها "أرض الذهب"، وبعد قرابة 90 عاماً من شراء المنطقة، تم اعتمادها ولايةً أمريكيةً؛ حيث كان ترتيبها الـ49 في عدد الولايات آنذاك.
المسافة بين روسيا وألاسكا
أضيق مسافة بين البر الرئيسي لروسيا والبر الرئيسي لولاية ألاسكا تبلغ نحو 88 كيلومتراً، وتوجد جزيرتان صغيرتان في مضيق بيرينج – وهو المسطح المائي الفاصل بين ألاسكا وروسيا – تُعرف الجزيرة الأولى باسم ديوميد الكبرى وهي مملوكة لروسيا، والأخرى ديوميد الصغرى، وهي مملوكة للولايات المتحدة.
ويبلغ عرض المياه بين هاتين الجزيرتين نحو 2.5 ميل أو نحو 4 كيلومترات فقط، وتتجمد هذه المنطقة فعلياً خلال فصل الشتاء؛ لذا يمكن من الناحية النظرية المشي من الولايات المتحدة إلى روسيا على هذا الجليد البحري الموسمي، وفقاً لموقع إدارة المتنزهات الوطنية الأمريكية.
هذه قصة ألاسكا.. لكن لماذا بعد مرور نحو قرن ونصف على انتقالها إلى أمريكا ما زالت روسيا تلمح إلى استعادتها من جديد؟ وما دور التغيرات المناخية؟
تنتمي ألاسكا إلى الإقليم شبه القطبي، ويعد مناخها الأكثر برودةً في الولايات الأمريكية، مع وجود المحيط الشمالي المتجمد في حدودها الشمالية، كما تحتوي على آلاف الأنهار الجليدية، لكن هناك واقعاً جديداً يفرض نفسه على نصف الكرة الأرضية الشمالي؛ حيث تتبدل ملامح الحياة المعتادة بشكل كبير في القطب الشمالي بسبب تغير المناخ، حسب مجلة العلوم الأمريكية "Scientific American".
ويؤدي ارتفاع درجة حرارة الأرض وتسرب غاز الميثان إلى ذوبان التربة الصقيعية وانهيارها، وفي جميع أنحاء القطب الشمالي، أصبح التغير هو الوضع الطبيعي الجديد، لا سيما مع غزو الشركات الكبرى المنطقة واكتشاف حقول النفط والغاز الطبيعي والتنقيب عن المعادن، بجانب زيادة الإقبال السياحي، وجميعها مظاهر بشرية تترك بصماتها على الطبيعة، لكنها في الوقت ذاته جعلت القطب الشمالي منطقة جاذبة للاستثمارات، نتيجة انحسار المناخ شبه القطبي.
هناك 3 طرق رئيسية تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ، من أهمها ممر الشمال الشرقي الذي اكتُشف في أواخر القرن الـ19، ويمتد من حافة ألاسكا إلى أعلى الدول الاسكندنافية على طول ساحل سيبيريا
تسارع ذوبان الجليد في القطب الشمالي
وذكرت دراسة حديثة لمعهد ألفريد فيجنر للأبحاث القطبية والبحرية الألماني أن ذوبان الجليد يتسارع في القطب الشمالي منذ 1998 بسبب الاحتباس الحراري، وقد تقلصت أكبر كتلة جليدية عائمة في المنطقة بنسبة 42%، بسبب زيادة درجة حرارة المحيطات التي جلبت تيارات أكثر دفئاً إلى المنطقة؛ ما أدى إلى تراجع الأنهار الجليدية.
الذوبان المستمر للجليد يؤدي إلى فتح المسارات البحرية المتجمدة عبر القطب الشمالي، وهناك 3 طرق رئيسية تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ، من أهمها ممر الشمال الشرقي الذي اكتُشف في أواخر القرن الـ19، ويمتد من حافة ألاسكا إلى أعلى الدول الاسكندنافية على طول ساحل سيبيريا.
ويمثل طريق بحر الشمال الواقع داخل الأراضي الروسية، جزءاً كبيراً من ممر الشمال الشرقي؛ لذلك أحياناً يُطلق على الاثنين الاسم ذاته.
ويستمد ممر الشمال الشرقي أهميته من اعتباره أقصر طريق بحري يربط بين قارتي آسيا وأوروبا عبر المحيط المتجمد الشمالي، لكن ظلت الظروف المناخية القاسية عائقاً كبيراً أمام اعتماده من قبل الرحلات التجارية على مدى سنوات طويلة، حتى أصبح العبور البحري ممكناً بسبب التراجع السريع للجليد البحري في القطب الشمالي نتيجة أزمة المناخ.
وبالفعل أبحرت أول سفينة حاويات في العالم عبر طريق بحر الشمال – في تجربة رصدتها صحيفة "واشنطن بوست" – حيث انطلقت سفينة "فينتا ميرسك" من ميناء فلاديفوستوك شرق روسيا في 23 أغسطس 2018، وقطعت 7 آلاف و200 ميل بحري خلال 23 يوماً فقط حتى وصلت إلى ميناء "بريمرهافن" الألماني.
الخطر الحقيقي والشامل في المنطقة هو ارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي، وزيادة المنافسة الجيوسياسية بين الدول، معبرةً عن شعورها بالقلق من الوجود المتزايد في القطب الشمالي، سواء من الجهات العسكرية أو التجارية؛ ما يزيد خطر وقوع حوادث قد تمتد إلى صراعات
لهذا السبب.. مساعٍ روسية لاستعادة ألاسكا
كل هذه المعطيات مع الواقع المناخي الجديد في شمال العالم، بجانب برنامج التنمية الروسي لتحديث موانئ القطب الشمالي وتطوير أسطول كاسحات الجليد الذي يتبناه الكرملين منذ فترة، أعاد طريق بحر الشمال أو الممر الشمالي الشرقي إلى المشهد الملاحي العالمي، وأثار الجدل حول نوايا السلطة الروسية في استرداد ألاسكا وباقي الأراضي السابقة للإمبراطورية، حتى تتحكم روسيا في أقصر ممر بحري بين قارتي آسيا وأوروبا، وتحوله إلى شريان نقل عالمي للشحن والتجارة عبر المحيط المتجمد الشمالي، استغلالاً للتغيرات المناخية في المنطقة.
ووفقاً لتقرير حديث نشرته مجلة العلوم الأمريكية حول القطب الشمالي، تعمل روسيا على استعراض عضلاتها في المنطقة القطبية من خلال شراكة مع الصين؛ لوضع قواعد البنية التحتية على طول طريق بحر الشمال، وهو أحد ممري الشحن الرئيسيين عبر القطب الشمالي.
روسيا تركز بشدة على القطب الشمالي، مستغلة أن أكثر من نصف مساحة القطب تقع داخل أراضيها، لكن بقية دول القطب (الولايات المتحدة وكندا والنرويج والسويد وفنلندا والدنمارك وأيسلندا) تشعر بالقلق إزاء زيادة مستويات الاستثمار الروسي في القدرات العسكرية والاقتصادية في المنطقة، حسب تصريحات نائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون القطب الشمالي والمرونة العالمية "إيريس فيرجسون"، التي نقلها موقع "E&E News".
وفي هذا الصدد، قالت مديرة مركز المناخ والأمن بالمجلس العسكري الدولي في الولايات المتحدة "إيرين سيكورسكي"، إن الخطر الحقيقي والشامل في المنطقة هو ارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي، وزيادة المنافسة الجيوسياسية بين الدول، معبرةً عن شعورها بالقلق من الوجود المتزايد في القطب الشمالي، سواء من الجهات العسكرية أو التجارية؛ ما يزيد خطر وقوع حوادث قد تمتد إلى صراعات.
ومن جانبه، أوضح المدير المساعد لمركز تيد ستيفنز للدراسات الأمنية الإقليمي في القطب الشمالي "ماثيو هيكي"، أن الإبحار عبر مسارات الشحن الشمالية من الطرق التي توضح التأثير الكبير للتغير المناخي، وما يحدث من تغييرات في القطب الشمالي، سواء كانت بيئية أو جيوسياسية، مؤكداً أن تزايد المنافسة على الموارد والطرق بالقطب الشمالي، سيؤدي إلى إثارة التوترات بين الدول المتنافسة؛ حيث إنه يجب وضع التغير المناخي في المقام الأول للوصول إلى استراتيجية دفاعية قوية في المنطقة.
ذوبان الجليد سيفتح الطرق البحرية، ويكشف المزيد من الموارد بالقطب الشمالي؛ ما يزيد أهمية المنطقة، ويؤدي إلى تصاعد التوترات بسبب قضايا التعدي على الأراضي في منطقة تتقاسمها 8 دول؛ حيث يلقي الاحتباس الحراري بظلاله على كل شيء في القطب الشمالي، حتى القواعد العسكرية القديمة – التي يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية – لم تعد تتحمل تداعيات الاحترار وذوبان التربة الصقيعية.
لذلك أجاز الكونجرس الأمريكي إنفاق 200 مليون دولار على تطوير البنية التحتية للقواعد العسكرية في ألاسكا، تأكيداً للوجود الأمريكي بالمنطقة، وهو الأمر الذي يعتبره البعض رسالة قوية من "العم سام" إلى الدب الروسي، وسط تخوفات من تصاعد التوتر وظهور الكثير من التهديدات، نتيجة العلاقة المتسارعة بين التغيرات البيئية والعواقب الجيوسياسية بسبب تداعيات التغير المناخي.