بوصفها "رمانة الميزان" في المجتمعات، لا تزال زيادة حجم الطبقة الوسطى يمثل أهمية قصوى لدوافع اقتصادية واجتماعية ومناخية أيضاً.
وتلعب هذه الطبقة في الدول العربية دوراً محورياً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي حال انقراضها تتعثر الدول وتتراجع عمليات التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي بها.
ومع تزايد الضغوط المناخية من جراء الاحترار العالمي، ارتفع معدل البحث على محرك "غوغل" عن المنتجات المستدامة بنسبة تتجاوز 70% منذ عام 2016، وفق إحصائيات الصندوق العالمي للطبيعة، وهو ما لفت الأنظار إلى دور الطبقة المتوسطة في عملية التحول نحو الاستدامة.
ويُقدَّر عدد الذين يُصنَّفون اجتماعياً بالطبقة الوسطى بأكثر من 3.5 مليار نسمة حول العالم، ويتراوح دخل أفرادها بين 12 و120 دولاراً يومياً، وفق موقع معهد "بروكنغز".
ويساهم توازن الطبقة المتوسطة، في ضمان النمو الاقتصادي بالمجتمعات، بسبب تركيز اهتمام أفرادها على جودة التعليم والصحة وتنمية المهارات والحصول على وظائف وغيرها.
الاستهلاك الأخضر
ورصد العلماء علاقة وثيقة بين الطبقات الاجتماعية، والإقبال على المنتجات الصديقة للبيئة؛ حيث أظهر بحث أجرته جامعة موناش الأسترالية عام 2020، أن الذين عرَّفوا أنفسهم بالطبقة المتوسطة أكثر ميلاً إلى تلك المنتجات، مقارنةً بالطبقات الأخرى.
وبدوره، أشار البروفيسور هين تات كيه الأستاذ بقسم التسويق في جامعة موناش الأسترالية، إلى اشتراك البشر في الحاجة إلى الاندماج والتميز في الوقت نفسه، لكن التعامل مع هذه الحاجة يختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى.
ويرى كيه أن الطبقات الأقل دخلاً لديها ميل أكبر إلى فكرة التوافق مع المحيط الذي تعيش فيه، ومن ثم تكون أكثر يقظةً عند الإقبال على أمر قد يجعلها مختلفة.
وفي المقابل، تميل الطبقات الأكثر ثراءً إلى إنفاق مبالغ أكبر من أجل تحقيق التميز، وللتعبير أكثر عن الفردية؛ حيث يساهم فيه 10% من المستهلكين الأثرياء بـ44% من الانبعاثات الكربونية المرتبطة بالاستهلاك، وفق تقديرات معهد "بروكنجز".
ووفقاً لرأيه، يتضمن شراء المنتجات المستدامة تضحيةً بسبب سعرها المرتفع مقارنةً بنظيرتها التقليدية، لكنها في الوقت نفسه تمنح الفرد تميزاً؛ لأنه أصبح صديقاً للبيئة.
وأشار كيه إلى أن هناك أبحاثاً أخرى كشفت كيف يُنظَر إلى ذوي السلوك المستدام بأنهم أكثر إيثاراً مقارنة بالآخرين، ومن ثم يمنحهم هذا الأمرُ شعوراً بالاندماج.
زخم عالمي
لكن الأمر لا يقتصر على طبيعة علاقة أفراد الطبقة المتوسطة بالاستهلاك، بل في الدور الذي يقومون به في دفع حكومات العالم.
ويرى عالم الاقتصاد هومي خاراس الزميل الأول في مركز التنمية المستدامة التابع لبرنامج الاقتصاد العالمي والتنمية في معهد بروكنغز، أن حالة الضغط العالمي التي أدت إلى توقيع اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015، يعود فضلها إلى مجموعات تعود أصولها إلى الطبقة المتوسطة، وفق مجلة "تايم" الأمريكية.
ويعتقد خاراس أن الطبقة المتوسطة هي التي تقود الاقتصاد العالمي نحو الاستدامة؛ ففي الوقت الذي تقتصر فيه سوق السندات المستدامة على تريليونَي دولار – وهو الرقم الذي لا يزال محدوداً – فإن أصحاب السندات يريدون أن ترتفع نسبة مساهمة محافظهم الاستثمارية في منتجات مالية تتعلق بهذا المجال، ويرى أن تلك الطبقة لها الفضل في دفع الشركات إلى هذا العالم المستدام.
ورغم تراجع دخل أفراد الطبقة المتوسطة مقارنةً بالطبقة العليا، فإن إجمالي إنفاقها يفوق الطبقات الأخرى، حيث وصل في عام 2020 إلى 44 تريليون دولار أي ما يصل إلى 68% من حجم إنفاق المستهلكين، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الإنفاق إلى 62 تريليون دولار بحلول 2030، وفقاً لموقع Visual Capitalist Elements.
التغير المناخي
ويجمع أفراد الطبقة الوسطى ميزة إضافية، وهي الاهتمام بمستوى التعليم؛ إذ رصدت ورقة عمل نشرتها منظمة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إيسكوا" في 2023 أن الطبقة المتوسطة العليا في بعض البلدان العربية، تفوق في التحصيل التعليمي باقي الطبقات الاجتماعية الأخرى.
واعتبر الدكتور صالح عزب أستاذ الاقتصاد البيئي واستشاري التنمية المستدامة، في تصريح لـ"جرين بالعربي" أن الطبقة المتوسطة هي صلب المجتمع، وحافظة للثقافة والقيم والمبادئ، ومنهم الموظفون والمثقفون وأصحاب الصناعات الصغيرة والمزارعون والطلاب.
وأشار أستاذ الاقتصاد البيئي إلى أن معظم المثقفين ينتمون بالفعل إلى الطبقة المتوسطة، وعليهم مسؤولية رفع الوعي من خلال منظمات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية، وتطوير المبادئ والتقاليد التي يقوم عليها المجتمع.
لكن استعداد الطبقة المتوسطة لإنفاق المزيد من الأموال على المنتجات الصديقة للبيئة المعروفة بارتفاع أسعارها العالية يقف عند حدود معينة، مشيراً إلى أن بعض الدراسات رجَّحت حجم الزيادة المقبولة لدى المستهلكين في السعر بـ15% فقط.
ووصف عزب الطبقة المتوسطة بـ"صلب الاقتصاد"، كما أنها الأكثر عرضةً للتلوث بسبب قضاء أوقات طويلة في الشوارع بحكم المهام والوظائف؛ إذ يواجه المزارعون الآثار السلبية التي تلحق بقطاع الزراعة، ومعدلات سقوط الأمطار، وتملُّح التربة، علاوة على تضرُّر المناطق الساحلية بسبب ارتفاع سطح البحر والتهديد بالغرق؛ ما ينذر بهجرة الملايين من المزارعين.