بفيضان من مشاعر الإحباط والترقُّب والألم أحياناً، ينتظر المزارعون موجات جفاف وشحاً مائياً، يليه سيول جارفة، وسط درجات حرارة مرتفعة تضر بالمحاصيل وتهدد مصدر رزقهم الوحيد.
وتعد الزراعة من أبرز القطاعات المهدَّدة على وقع تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، الذي يزيد وتيرة الكوارث الطبيعية، وسط تحذيرات بانخفاض كميات المحاصيل الزراعية بنسبة 30% بحلول 2050.
ويُهدِّد الاحتباس الحراري الأمن الغذائي العالمي، كما يهدد الصحة العقلية والنفسية للمزارعين الذين تُحاصِرهم مخاوف عدم التحكم في الطقس وفقدان مصدر رزقهم.
الديون والانتحار
وفي محافظة النجف (جنوب غرب العراق) دمَّرت موجات الجفاف محاصيل الأرز؛ ما ضاعف الأزمات المالية على المزارعين، وأدَّى إلى انتحار 10 منهم بسبب تراكم الديون.
وبقوله: "أشعر بالحزن والاكتئاب، أعمل باجتهاد لكن لا أتمكن من الوفاء بالاحتياجات الأساسية لأسرتي بسبب ندرة المياه"، أعرب أحد المشاركين في دراسة رصدت الآثار النفسية والصحية على المزارعين الفلسطينيين في منطقة وادي الأردن، من جراء ندرة المياه بسبب التغيُّرات المناخية.
فيما تحدَّث مشارك آخر بالدراسة عن إجباره على زراعة نصف مساحة الأرض التي يملكها؛ بسبب الظروف البيئية والمناخية المتطرفة؛ ما ساهم في تخفيض الإنتاج والعائد المادي إلى النصف تقريباً.
الدراسة أجرتها الباحثة سوزان سرحان في رسالة ماجستير مُقدَّمة لجامعة لينيوس بالسويد، لرصد انتشار الضغوط النفسية بين المزارعين في المنطقة.
الباحثة حاورت 9 مزارعين، لجأ 8 منهم إلى تغيير نوع المحصول الذي يزرعونه جزئياً أو كلياً للتكيُّف مع شح المياه، رغم أن ذلك لم يُنْهِ الأزمة.
ولفت أحد المشاركين في الدراسة إلى أزمة أخرى، هي تراجع درجة نقاء الهواء وزيادة الغبار في السنوات الأخيرة؛ وذلك تزامناً مع تفاقم الجفاف وندرة الأمطار وقطع أشجار الفواكه والاستعانة بالصُّوَب البلاستيكية، وهو السبب الرئيسي لزيادة الأمراض التنفسية، وفق رأيه.
علاقة طردية
وتشير عدة دراسات إلى علاقة بين تلوث الهواء وزيادة خطر الإصابة بمشكلات الصحة النفسية.
ونقل موقع الجمعية الأمريكية للطب النفسي، نتائج دراسة أمريكية دنماركية أُجريت في عام 2019، كشفت عن ارتباط وثيق بين استنشاق الهواء المُلوَّث وبين زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب، والاضطراب الثنائي القطب وغيرهما من الأمراض النفسية.
وأشارت الدراسة إلى أن من يعانون بالفعل من أمراض عقلية بدرجة إصابة شديدة، يزداد خطر وفاتهم عند العيش في مناطق تتسم بتلوث الهواء.
بدوره، يشير الدكتور جمال فرويز استشاري الطب النفسي، إلى الآثار الناجمة عن التعرُّض للضغوط والخسائر المالية؛ حيث يُصَاب الإنسان باكتئاب تفاعلي بسبب الظروف المحيطة، لكنه يزول بانتهاء السبب. أما إذا تحوَّل الأمر إلى مرض نفسي فإن ذلك يعود إلى وجود الجين المسؤول عن ذلك.
ويضيف فرويز، في تصريح لـ"جرين بالعربي"، أن النساء أكثر عرضةً للإصابة بالاكتئاب من الرجال؛ نظراً إلى التغيرات الهرمونية التي تمر بهن في بعض الأحيان.
وحذر استشاري الطب النفسي من غياب الوعي بالصحة النفسية في البيئات الريفية، التي عادةً ما يلجأ القاطنون بها إلى الطرق الشعبية أو الشعوذة للاستشفاء من المرض النفسي، رغم أن الأمر يحتاج إلى تشخيص وتلقي علاج.
ويقول: "الخوف من وصم المرض النفسي عادةً؛ ما يؤدي إلى تأخر العلاج (...) الشباب يمكنهم نشر الوعي النفسي ودفع المرضى إلى العلاج".
لا تقتصر معاناة الضغوط النفسية لبعض المزارعين على الدول النامية فحسب، بل تنتشر في أنحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك الخوف من الوصم المجتمعي.
معاناة عابرة للحدود
في الولايات المتحدة الأمريكية، تزيد معدلات الانتحار بين المزارعين بفارق 3.5 مرة مقارنةً بالمعدل العام في الدولة، وفق مؤسسة الجمعية الوطنية للصحة في المناطق الريفية.
وارتفعت نِسَب الانتحار في المناطق الريفية الأمريكية بنسبة 48% خلال الفترة بين عامي 2008 و2018، مقارنةً بـ34% في المناطق الحضرية.
وتقول جوسي رادولفي أستاذة الزراعة في جامعة إلينوي ومديرة أحد مراكز الدعم النفسي للعاملين بالقطاع، إن موجات الجفاف وعدم التحكم في الطقس وارتفاع الأسعار، عوامل ساهمت في زيادة المشكلات النفسية.
وتشير رادولفي إلى أزمة أخرى هي امتداد الضغوط النفسية إلى الأبناء، لا سيما أن المَزارِع ليست نشاطاً تجارياً فحسب، بل مقرات إقامة كاملة. وبحسب الموقع الرسمي للجامعة، هناك 20 مليون شاب في الولايات المتحدة قضوا فترة نشأتهم داخل مزارع.
ورصدت الباحثة انتشار الأزمة على مستوى عائلي؛ حيث يواجه نحو 60% من الآباء على الأقل أعراضاً خفيفةً من القلق والاكتئاب، لكن المفاجأة أن النسبة تطابقت عند رصد الظاهرة بين أطفالهم.
الوصم الاجتماعي
وتترسَّخ في البيئات الريفية حزمة من الأفكار والعادات والموروثات التي تقود القاطنين فيها إلى عدم اعتياد طلب المساعدة.
بدوره، أجرى الباحث نوح هوبكنز في جامعة جورجيا الأمريكية، دراسة للنظر في الأسباب التي تمنع العاملين في الزراعة من طلب الدعم النفسي، وهي الأسباب التي تعود إلى الأفكار الذكورية في تحمُّل الأعباء النفسية دون طلب مساعدة أو اللجوء إلى آخرين.
ويقول هوبكنز إن تلك الطريقة عززت الاعتقاد بأنه إذا كنت مزارعاً، أو إذا كنت رجلاً في العموم، فمن المفترض أن تصمد في وجه المحن، وتنجو منها دون شكوى.
لكن ما يحدث هو أن البعض يلجأ إلى تناول الكحول، وإساءة استخدام المواد الكيميائية من أجل التكيف مع الأزمات.