بمكانة خاصة في قلوب العرب، كانت ولا تزال أشجار الزيتون رمزاً للسلام، وطعاماً شهياً وجزءاً أصيلاً من ثقافة البحر المتوسط، وضيفاً عزيزاً على الأراضي العربية.
ورغم قسوة التغيرات المناخية، ما زالت أشجار الزيتون العربية صامدة تتحدى موجات الحرارة والجفاف، قد تكسب جولة وتخسر أخرى، لكنها لا تزال تقاوم.
وفي موسم ٢٠٢٢–٢٠٢١ انخفض الإنتاج في مصر؛ حيث أثرت سلباً الأشهر الباردة التي أعقبها موجات حر مفاجئة على أشجار الزيتون، قبل أن ينتعش الإنتاج في الموسم الحالي، على عكس دولتي تونس والمغرب اللتين تمتَّعتا بموسم جيد في 2021، قبل أن ينخفض بسبب قلة هطول الأمطار، وفق المجلس الدولي للزيتون "IOC".
وبخلاف تأثيرات تغير المناخ، تواجه أشجار الزيتون العربية بكتيريا قاتلة تسمى "زيليلا فاستيديوسا"، أو كما يطلق عليها "القاتل الصامت"؛ إذ تهدد أشجار الزيتون وتقضي على 21 مليون شجرة معمرة في جنوب إيطاليا، كما تهدد محصول إسبانيا (أكبر منتج لزيت الزيتون في العالم).
زيت الزيتون
زيليلا فاستيديوسا
وبحسب تقديرات الاتحاد الأوروبي، تتصدر هذه البكتريا قائمة الآفات التي يجب التعامل معها كأولوية قصوى؛ إذ يؤدي انتشارها إلى خسارة فادحة في الإنتاج، مع أضرار تقدر بما يزيد عن 5.5 مليار يورو سنوياً.
وعلى الصعيد الاجتماعي، قد تهدد تلك البكتيريا مصدر رزق آلاف الأشخاص، مع احتمال فَقْد 300 ألف وظيفة متعلقة بمحاصيل أشجار الزيتون والحمضيات والعنب.
وتُعَد البكتيريا مرضاً جرثومياً يهدد حياة النباتات، ويقدر على إصابة 560 نوعاً نباتياً؛ فإن من المتوقع ارتفاع عدد هذه الأنواع أو العوائل، كلما دخلت البكتيريا مناطق جديدة بالعالم؛ فقد كان موطنها الأصلي الأمريكتين، ومنذ نحو 10 سنوات ظهر المرض في القارة العجوز، وانتشر في جنوب إيطاليا ثم فرنسا وإسبانيا ومؤخراً في البرتغال.
ويطلق على هذا المرض أحد أكثر الأمراض النباتية تدميراً في العالم، ويوجد عدة سلالات من هذه البكتيريا، ويمكنها أن تصيب أيضاً العنب والحمضيات ونباتات الزينة، لكن السلالة الجديدة التي ظهرت في منطقة البحر المتوسط للمرة الأولى عام 2013 وتم تسجيلها في إيطاليا، تؤثر بشكل أساسي على أشجار الزيتون؛ حيث تعرف أحياناً باسم متلازمة التدهور السريع لمحصول الزيتون".
وعند انتشار هذه البكتيريا، يواجه المزارع عدة مشاكل؛ منها صعوبة عزل الأشجار المصابة؛ لأن المرض ينتقل أيضاً عن طريق الحشرات، بجانب طول فترة الحضانة التي قد تستمر لعدة أشهر وقد تصل إلى عام، ومن ثم لا تظهر أي أعراض للعدوى، وعند ظهورها تبدو الفروع ضعيفة والأوراق جافة وثمار الفواكه منكمشة.
وتعاني الأشجار المصابة من الجفاف داخلياً؛ حيث يصيب المرض النسيج الوعائي الخشبي للنبات المسؤول عن نقل الماء والغذاء إلى الأطراف فتختنق مع الوقت.
تقييم الدول العربية
ولم يعلن عن ظهور هذا المرض القاتل في المنطقة العربية، لكن منظمة "فاو" أعربت عن قلقها إزاء هذا التهديد العالمي لصحة النبات، واعتبرته "خطراً داهماً" على الأمن الغذائي في الإقليم المتوسطي، وأنه الآن يقف على أعتاب منطقة شمال إفريقيا.
ويشار إلى أنه أجريت دراسة إيطالية لبنانية إنجليزية مشتركة حول غزو المرض بلداناً جديدة في أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع وضع سيناريوهات الانتشار المحتملة، ويشمل البحث 56 دولة بالعالم منها 17 دولة عربية.
وتذكر الدراسة الحديثة الصدور، أن الغزو البيولوجي لإحدى البلاد، هو عملية متعددة المراحل، ولكن يمكن تبسيطها إلى مرحلتين؛ أولهما دخول البكتيريا إلى الدولة مثل النباتات المستوردة من أماكن انتشار المرض، عن طريق الشتلات المصابة، وخاصةً نباتات الزينة، والثانية مرحلة الانتشار عبر عوامل مثل الحشرات الناقلة (وجود النواقل ضروري لنشر العدوى من النباتات المصابة إلى السليمة)؛ حيث تكون المحاصيل الحساسة أكثر عرضةً للخطر.
وبشأن تقييم المخاطر في المرحلتين بناء على نظام التصنيف الذي طوره الباحثون، فإن دولتي المغرب وتونس هما الدولتان العربيتان الأكثر عرضةً للخطر "مستوى عالٍ من المخاطر"، فيما يمتلك لبنان أراضي ملائمة لانتشار المرض؛ لذلك إذا دخلت البكتيريا البلاد فسوف يكون لديها مستوى مرتفع من مخاطر الانتشار.
فيما تقف مصر والجزائر والأردن عند مستوى متوسط من التهديد، وباقي الدول العربية لديها مستوى منخفض من المخاطر، كما تظل البحرين وليبيا واليمن هي الأقل عرضةً للتهديد في قائمة العالم العربي.
تغير المناخ
وفقاً للدراسة، قد تكون درجات الحرارة المرتفعة صيفاً في جنوب أوروبا (إيطاليا والبرتغال وإسبانيا) هي السبب الرئيسي لعملية الغزو المدمرة التي قامت بها البكتيريا؛ لأنه عند مقارنتها بدول شمال أوروبا التي تتعرض لمستوى المخاطر نفسه من البكتيريا تقريباً، فإن درجات الحرارة المنخفضة نسبياً في الصيف قد تحد من انتشار العدوى وتسيطر عليها، وهذا أيضاً من العوامل التي تجعل المنطقة العربية أكثر عرضةً للخطر.
وبوجه عام، انخفض محصول الزيتون في العالم بنسبة 12% عن متوسط السنوات الخمس الماضية، وانخفض إنتاج زيت الزيتون بنسبة 18% هذا العام مقارنةً بمحصول عام 2021/2022.
ويُلقَى اللوم، إلى حد كبير، على درجات الحرارة المرتفعة التي ألحقت الضرر بالأشجار في وقت الإزهار، وآثار الجفاف غير المسبوق الذي امتد عبر أوروبا وشمال إفريقيا. وفي حين أن الزيتون معروف بمقاومته للجفاف، فإن العديد من الأشجار في جميع أنحاء المنطقة لم تحصل حتى على الحد الأدنى من كميات المياه اللازمة.
وفيما يتعلق بإنتاج زيتون المائدة العالمي، فقد وصل إلى 3.10 مليون طن هذا العام، وتتبادل إسبانيا ومصر الصدارة العالمية في إنتاج زيتون المائدة وفقاً للمجلس الدولي للزيتون.
وحققت مصر لأول مرة أعلى إنتاجية على مستوى العالم خلال موسم 2019/2020 بحجم إنتاج 650 ألف طن، بينما بلغ إنتاج إسبانيا 458 ألف طن، قبل أن تعود إلى القمة مجدداً في عامي 2021-2022.
وبعيداً عن حوض البحر الأبيض المتوسط، بدأت السعودية منذ نحو ١٥ عاماً زراعة أشجار الزيتون في شمال المملكة، ويصل عدد الشجر الآن إلى أكثر من 5 ملايين شجرة زيتون.
السبل الوقائية
ويعد من الصعب عزل الأشجار المصابة بهذه الآفة، ولا توجد أي إجراءات علاجية لشفاء الشجر المصاب، وإذا لم يتم احتواؤه بشكل صحيح فسوف يتحول إلى قنبلة موقوتة على وشك الانفجار في جميع أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط، وسوف يهدد كل المزارعين، وخاصةً أصحاب الحيازات الصغيرة.
لذلك نجد أن دولتي تونس والمغرب – باعتبارهما الأكثر تهديداً من قبل هذا المرض – شددتا الإجراءات الوقائية في مواجهة المرض؛ ففي عام 2016 أصدرت تونس قراراً من وزير الفلاحة والموارد المائية يتعلق بضبط شروط صحة النبات ومراقبة النباتات المستوردة، وضرورة استخراج تصريح ينص على أن النباتات قادمة من منطقة خالية من البكتيريا.
كما أعلن المغرب في منتصف العام الماضي منع جميع المسافرين من إدخال الشتلات ونباتات الزينة والبذور، وأن أي نبات أُدخل إلى البلاد من قبل المسافرين سيتم احتجازه، كما أن استيراد النباتات من الخارج يجب أن يكون مصحوباً برخصة صادرة عن السلطة المختصة مع التحذير من استيراد نباتات الزينة من البلدان التي سجلت ظهور البكتيريا.
وتحاول منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" دعم الجهود الوقائية المبذولة ومساعدة المزارعين في حماية الأشجار، من خلال التقنيات الحديثة، وتبادل المعرفة والخبرات مع الدول الأوربية؛ وذلك من أجل منع تفشي المرض.
فيما تساعد المنظمة الدول المُعرَّضة للخطر على تقوية تدابير مراقبة الصحة النباتية، وتحديث التشريعات القانونية لمنع دخول أي نبات مصاب عبر التجارة الدولية مع الانتباه إلى نباتات الزينة، خاصةً لأنها من أكثر النباتات الناقلة للآفات.
وُتعتبر شمال إفريقيا من أكبر مستوردي مواد إكثار النبات، التي تعد من أكثر السبل المحتملة وراء انتشار المرض عبر دول العالم؛ لذلك تؤكد منظمة "فاو" ضرورة اعتماد نظام مراقبة فعال على النباتات المستوردة في جميع الموانئ، ومكافحة الحشرات الناقلة للعدوى.
ورغم كل التدابير الوقائية التي تتخذها أوروبا، ما زال هذا المرض يسري في أشجار إيطاليا وفرنسا وإسبانيا منذ غزوه القارة العجوز في 2013؛ لذلك تبقى الإجراءات الاحترازية لمنع دخول البكتيريا إلى الوطن العربي هي الضامن الأول لسلامة أغصان الزيتون الخضراء.