الساحل التونسي كان موطناً لكائنات بحرية ذات تنوع بيولوجي غني على مدار سنوات طويلة، لكن المعركة الشرسة في أعماق البحر بين تلك الكائنات وبين ممارسات الصيد غير القانونية والتغيرات المناخية، وضعت الحياة البحرية على المحك، وأصبحت البلاد تواجه تحديَ الموازنة بين الفوائد الاقتصادية لصيد الأسماك والحاجة إلى حماية النظم البيئية البحرية للأجيال القادمة.
يساهم صيد الأسماك في تونس بشكل أساسي في الأمن الغذائي والتوازن الاجتماعي، لا سيما في المناطق التي يمثل فيها المصدر الرئيسي للدخل، لكن اليوم يعيش الصيادون أوقاتاً حرجة تُهدِّد مصدر رزقهم، وبعضهم ما زال يمارس الصيد غير القانوني، دون إدراك أنها تهدد مهنتهم في الأساس؛ بسبب تدمير موائل الأسماك والأعشاب والشعاب المرجانية؛ ولهذا فالصيد المستدام قادر على إنقاذ ما تبقى بالبحار، لكن تطبيقه ليس بالأمر السهل حالياً.
أساليب الصيد المدمرة للموائل البحرية
الصيد بـ"شباك الجر" في قاع البحر من أكثر أساليب الصيد تدميراً للموائل البحرية؛ حيث يُطلق كميات كبيرة من الكربون من قاع البحر، ويؤدي إلى تآكل السواحل، ويحرم صغار الصيادين من سبل عيش لا يمكن تعويضها.
يمثل الصيد غير القانوني دون إبلاغ ودون تنظيم ما يصل إلى 26 مليون طن من الأسماك التي يتم اصطيادها سنوياً وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة.
مؤسسة العدالة البيئية – وهي منظمة غير حكومية تعمل على تأمين عالم تستطيع فيه الموائل الطبيعية والبيئات الطبيعية إدامة واستدامة المجتمعات – أجرت تحقيقاً في منطقة خليج "قابس" بتونس؛ لأنها منطقة ذات أهمية بيئية وثقافية واجتماعية واقتصادية استثنائية.
توصَّل التحقيق إلى أن استخدام "شباك الجر" يُمارَس علناً على مدار العقد الماضي رغم كونه غير قانوني؛ حيث لوحظ وجود المئات من السفن في موانئ خليج "قابس" مع تزايد أعدادها لأكثر من الثلث بين عامي 2018 و2022.
السفن المستخدمة في الصيد غير القانوني عبارة عن قوارب خشبية صغيرة يبلغ طولها أقل من عشرة أمتار، وتجني حصيلتها من الأسماك بشباك الجر في قاع المياه الضحلة التي يتراوح عمقها بين 5 أمتار و15 مترًا، منتهكةً تدابير الحفظ والإدارة التي اعتمدتها الهيئة العامة لمصايد أسماك البحر الأبيض المتوسط.
منافسة شرسة بين الصيادين
وجود أساليب الصيد غير القانوني والتزام بعض الصيادين بطرق الصيد التقليدية، مثل "الصيد باستخدام الشرفية" المعروفة في تونس، يخلقان نوعاً من المنافسة غير العادلة.
أحمد تاكتاك (54 عاماً) يستعيد ذكريات الماضي؛ حيث أيام الصيد الوفير؛ إذ يقول إن البحر كان يمتلأ بالكائنات البحرية قبل قرابة 30 عاماً، التي كانت تظهر حتى في المياه الضحلة، لكنه هاجر إلى إيطاليا وعندما عاد واصل الصيد بتنقية "الشرفية"، وهي تقنية صيد تقليدية تستخدم أشجار النخيل التي يتم دفعها إلى قاع البحر لإنشاء قنوات تنقل الأسماك إلى مصائد، كما أدرجتها اليونسكو مثالاً للاستدامة.
هذه التنقية اليوم لا تُسعِف الصيادين كما أوضح لمجلة "Geographical"، نتيجة انخفاض أعداد الأسماك التي يستخرجونها من البحر، وبالكاد يكسبون رزقهم مثل "تاكتاك" تماماً، والأسوأ من كل ذلك عندما تخرج أسماك غازية للصيادين من البحر، كأنواع مثل الدنيس والأخطبوط والسرطانات الزرقاء التي انتقلت من البحر الأحمر إلى المتوسط.
تنتشر القشريات بشكل كبير في خليج "قابس"، وتُدمِّر بعض الكائنات البحرية الأخرى التي يحتاجها الصيادون لبيعها، لكن "أحمد" وجد في الضرر نفعاً؛ حيث يصطاد سرطان البحر الأزرق ويبيعه لوسيط محلي؛ حيث يستخدم في أمريكا طعاماً، لكنه لا يستطيع بيعها مباشرةً إلى شركات التصدير؛ لأنها ترفض الشراء مباشرةً من صغار الصيادين، بل يتعامل المصدرون فقط مع الوسطاء الذين يجلبون لهم أطناناً من السرطانات التي يجمعها عدد كبير من الصيادين الحرفيين.
صيد غير قانوني علانيةً
تكدُّس سفن الصيد غير القانوني في ميناء "صفاقس" علانيةً أمر مثير للقلق؛ حيث كشف صياد رفض ذكر اسمه عن تورطه في الصيد غير القانوني للأسماك؛ وذلك وفقاً لما ذكره لشبكة الإعلام التونسية "Blue TN".
"بدأت العمل في سن الـ15 بعد أن ورثت المهنة من والدي، وكبر معي شغفي بالبحر؛ حيث كنت اصطاد الأسماك بالطرق التقليدية، ثم اتجهت إلى شباك الجر".. هكذا بدأ الصياد اعترافه.
أوضح أنه أراد تجربة حظه في الصيد بـ"شباك الجر" لتحسين أوضاعه الاجتماعية وزيادة دخله رغم إدراكه أن هذه الممارسة مسببة لتدهور التنوع البيولوجي، إلا أن كسب "لقمة العيش" والحصول على مكسب أكثر 10 مرات من الصيد التقليدي أغواه لتحسين الوضع المالي لأسرته.
ضرر مستدام بالبحر المتوسط
أزمة أخرى في البحر المتوسط تتمثل في تهديد وجود عشب "بوسيدونيا"، الذي لديه القدرة على عزل الكربون بما يصل إلى 70 ضعف الغابات الاستوائية، كما يمتص نحو 15-20% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بتونس؛ إذ يتضرر بشدة من جراء الصيد بـ"شباك الجر".
هذا الخطر لا ينال العشب البحري فقط بل يؤثر مباشرةً على المناخ والحياة البرية واقتصادات المحيطات المستدامة؛ لأن "بوسيدونيا" يحمي الساحل التونسي من التآكل، ويُعزِّز جودة المياه، ويعمل كمنطقة حاضنة للأنواع البحرية المهددة بالانقراض، كأسماك القرش والسلاحف البحرية والأسماك ذات الأهمية التجارية.
الصيد المستدام
عبير غربي مهندسة بيئية متخصصة في علوم المصايد، كشفت لـ"جرين بالعربي" أن بعض الصيادين ليسوا على دراية كاملة بالأثر البيئي لأعمالهم أو العواقب الطويلة المدى للصيد غير القانوني، مشيرةً إلى أن استخدام معدات الصيد الانتقائية يمكن أن يساعد في تقليل الصيد العرضي، واعتماد التقنيات المبتكرة يعزز ممارسات الصيد مع تقليل الآثار البيئية.
من الخطوات التي يمكن اتخاذها لإنقاذ التنوع البيولوجي بالبحر المتوسط، كما ذكرت "غربي"، إنشاء مناطق محمية، وتعزيز إدارة مصايد الأسماك، ومكافحة الصيد غير القانوني، ورفع الوعي العام، ودعم البحث والرصد، بالإضافة إلى إشراك المجتمعات المحلية والصيادين وأصحاب المصلحة في جهود الحفظ.
الوصول إلى الاستدامة ليس أمراً سهلاً، لكنه يُحقِّق مستقبلاً مشرقاً للصيادين، محافظاً على الحياة البحرية وعلى الأمن الغذائي البحري.