ظلت القصص الخيالية وحكايات العصور القديمة تسيطر على عالم الرسوم المتحركة لعقود طويلة، وكان الصراع بين الخير والشر هو الموضوع المفضل لهذا العالم الحالم وأبطاله من أميرات ديزني، حتى ظهرت شركة وستوديوهات "بيكسار" للرسوم المتحركة، والتي ابتعدت عن أرض الأحلام المستهلكة، وجعلت رحلات اكتشاف الذات المغلفة بجرعة متدفقة من المشاعر هي التيمة الأولى لأفلامها، بغض النظر عن العالم الذي ينتمي له الأبطال، من "نيمو" و"شركة المُرعبين المحدودة" إلى فيلم "الطباخ الصغير".
وبعد مرور ربع قرن من الألفية الثالثة، بما تشهده من كوارث بيئية ومناخية، ربما لم يعد الصراع التقليدي بين الأخيار والأشرار أو الصراع الداخلي يصلحان لصناعة فيلم أنيميشن يخاطب عقول الأجيال الشابة الجديدة، لذلك لم يكن غريباً فوز "Flow" بجائزة أفضل فيلم رسوم متحركة، في حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام 2025، متفوقاً على عدد من الأفلام المنافسة والقوية.
فيلم " الفيضان – Flow"
بعيداً عن عالم هوليوود الشهير، يتناول جينتس زيلبالوديس، المخرج اللاتفي صاحب الأسلوب الفريد، فكرة الحياة بعد الفيضان، من خلال مغامرة خيالية لقط وحيد تحاصره المياه.
ويتمكن القط من القفز داخل قارب شراعي بحثاً عن ملجأ، لكنه يجد نفسه وسط مجموعة من الحيوانات الهاربة أيضاً من الفيضان؛ وعليهم جميعاً أن يعيشوا هذه المغامرة الخطيرة التي تجبرهم على العمل معاً، متجاوزين اختلافاتهم، حتى يستطيعوا النجاة وإنقاذ الحيوانات الأخرى من هذه المحنة، حتى لو لم يكن لديهم الرغبة في ذلك.
رسالة الفيلم إلى الأجيال الشابة
يتحدث الفيلم عن الخوف والمساعدة والمرونة والبقاء والتأقلم والمغامرة والتأمل، ينقل الجمهور إلى عالم غامض حيث اجتاحت المياه اليابسة ومحت جميع أشكال الحياة البشرية، كل ذلك دون أن يشير الفيلم طوال الأحداث إلى فكرة "تغير المناخ" أو "ارتفاع مستوى سطح البحر"، لكن هل يحتاج أحد إلى تلميح مباشر؟
رحلة نجاة الأبطال وبحثهم عن ملجأ من كارثة الفيضان التي غمرت عوالم الحيوانات، وتركت المدن غارقة وخالية تماماً من الحضارة البشرية، تجسد أمامك على الشاشة غضب الطبيعة بعد أن نفد صبرها من أفعال الإنسان؛ الذي حاول التدخل في الأنظمة البيئية والسيطرة عليها، ما أدى إلى تفاقم تداعيات التغير المناخي.
وفي الواقع، فيضان فيلم "Flow" يذكرنا بفيضانات إيطاليا والصومال وأمواج تسونامي بالمحيط الهندي، تلك الكوارث المناخية التي استشرت خلال العقود الأخيرة، ربما يكون تغير المناخ ليس الرسالة الصريحة للفيلم، لكنه بالتأكيد جزء لا يتجزأ من الصورة الكاملة لـ"Flow"، تماماً كما أصبح تغير المناخ جزءاً لا يتجزأ من تجربتنا في الحياة الواقعية.
والسؤال: لماذا تعمد المخرج جينتس زيلبالوديس اللجوء إلى التلميح دون التصريح المباشر عن قضية تغير المناخ؟
يستهدف الفيلم في المقام الأول الجمهور الأصغر سناً، الذي سيكبر ويدرك الحياة وسط تداعيات أزمة تغير المناخ، وسيختبرون ذلك بأنفسهم، لذا يقدم المخرج اللاتفي فيلما يتحدث، إلى هذه الأجيال الشابة حول تغير المناخ بطريقة صادقة، لكنها بعيدة عن القتامة.
ويوضح موقع "Mashable" الأمريكى، أن المخرج استخدم تغير المناخ كعنصر لبناء عالم الفيلم، وبفضل الصور واللقطات الواضحة والمتعمدة، استطاع الفيلم بالفعل تضمين قضية تغير المناخ داخل سياق الأحداث، دون توجيه مباشر، لذلك كان دور قضية المناخ حيوي لكنه مدروساً بعناية لنقل الحقائق إلى الجمهور الشاب.
ويعلق زيلبالوديس في حوار لموقع "Mashable" أن الإشارات البيئية بالفيلم تساعدنا على رواية القصة وفهم الشخصيات، لذا "فإن كل شيء في الفيلم موجود لسبب ما".
اختفاء البشر
يشرح مخرج الفيلم سبب عدم ظهور أي إنسان في الأحداث؛ قائلاً إنه عند مشاهدة كفاح القطة وباقي الحيوانات من أجل الحياة بعد الفيضان، فنحن في الحقيقة نشاهد الأبرياء وهم يتحملون وطأة شيء لم يكن يوماً مسؤوليتهم، ولم يكن لهم أي دور في نتائجه، وهذا ما يهمنا حقاً.
فهؤلاء الأبرياء التي أصبحت الفيضانات والعواصف الشديدة جزءاً من حياتهم، يعكسون حال الأجيال الشابة في العصر الحالي، الذين يرثون عالماً تغير بشكل كبير بسبب أزمة المناخ المتسارعة، ويدفعون ثمن فاتورة الأنشطة البشرية الضارة للأجيال السابقة.
ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إن فيلم "Flow" لا يتحدث إلى الجماهير الشابة عن قضية المناخ فقط، بل يتحدث نيابة عنهم أيضاً، بينما الأجيال الأكبر سناً "غائبة" داخل أحداث الفيلم؛ لأنهم لن يشهدوا التأثير الكامل لتغير المناخ، ولن يضطروا إلى التعامل مع المخاطر التي كانوا هم سبباً في تفاقمها.
البعد عن تنميط الحيوانات
يقدم الفيلم تجربة بصرية مبدعة ومدعومة بالمشاعر، لكنها قبل كل شيء مختلفة، بعيداً عن "نمطية هوليوود" في تقديم الحيوانات أما لطيفة أو شريرة داخل هيئات والوان معتادة.
على العكس، يأتي أبطال "Flow" بأشكال قريبة من حيوانات البرية؛ حيث تبدأ القصة مع قط أسود، ذات عيون واسعة ونظرات حادة يعاني من رهاب الماء لكنه يضطر إلى السباحة في المياه لإنقاذ نفسه، ورغم الأفكار المسبقة عن القطط السوداء، تجد نفسك متعاطفاً مع هذا الكائن الضعيف الذي يحاول النجاة من الموت.
وفي محاولة للاقتراب الكامل من الواقع، يتخلى الفيلم تماماً عن الحوار ويستبدله بأصوات الحيوانات الطبيعية، وهو غير متوقع من أفلام الأنيميشن التي اعتادت على جعل الحيوانات تتحدث بلغة البشر، لذلك كانت الصورة والإضاءة والبيئة المحيطة هي الوسيلة الوحيدة للتعبير عن مشاعر الأبطال، حسب حوار المخرج مع موقع الفرنسي" 3DVF.com".
يعتبر النقاد فيلم "Flow" واحداً من الأفلام التي تتناول تغير المناخ بأسلوب "ثوري هادئ"، صادق ولكنه غير متشائم بشأن المستقبل، وربما يكون ذلك أحد الأسباب ليصبح "Flow" أول فيلم لاتفي يحصل على جائزتي الأوسكار والجولدن جلوب ويحطم أرقام شباك التذاكر في لاتفيا.
نجح المخرج جينتس زيلبالوديس في خلق عالم آسر ومؤثر حول مجموعة من الحيوانات، دون أن ينطقوا بكلمة واحدة، مع صورة ساحرة تمزج الواقع بالخيال، فيلم يدعو الجميع إلى التغلب على المخاوف والاختلافات الشخصية، ومساعدة الآخرين والتفاهم المتبادل من أجل التكيف مع العالم الجديد، الذي باتت التغيرات المناخية تعيد تشكيله مرة أخرى.. التضامن، وليس الأنانية، هو الذي سينقذ هذا العالم؛ فالجميع يبحث عن سفينة نوح للنجاة، على غرار أبطال "flow".